شخصيات كتابية
تسجيل

شخصيات كتابية/ ارميا النبي الباكي

كان ارميا نبي الدموع ، شبيهاً بالمسيح ، ومن أقسى ما عاناه أنه رأى بعينيه مدينته التعسة، والبابليون ينقضون عليها كالوحوش، ويسوونها وهيكلها ومجدها بالتراب، ورأى ارميا قتلى بنت شعبه، فصرخ: « يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبي».

هل رأيت مدينة تتحول بأكملها إلى كتلة من نار، ويجرى في طرقاتها إنسان دون أن يعرف إلى أين يتجه، سوى أن يطلق لنفسه العنان في البكاء والنحيب والمراثي. هكذا كان ارميا وكانت مراثيه، وكان حزنه الذى لا يوصف، الحزن الذى أمسك بحياته من مطلعها وهو يجرى بين أورشليم وعناثوث، حتى مات في مصر، ويقال إنه مات رجماً من مواطنيه.

.

 اولاً- ارميا, من هو:

انه ذلك الإنسان الذى صوره اللّه من بطن أمه ، وأخرجه من الرحم ، وأقامه «مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض . فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك » ارميا1 : 17 - 19

إنه واحد من أنبياء إسرائيل العظام، ولأن الاسم كان شائع الاستعمال، لذلك يدعى النبي "ابن حلقيا " ( ارميا 1 : 1 )، وهو غير حلقيا رئيس الكهنة الذي جاء ذكره في (2ملوك22+ 23). يُذكر عن ارميا فقط أنه " من الكهنة الذين في عناثوث في أرض بنيامين " حيث عاشت فئة من الكهنة تنتمي إلى فرع صادوق الكاهن ( 1 مل 2 : 26 ) .  

ثانياً- حياة ارميا: عاش ارميا طوال حياته، وهو أشبه الكل بالجندي الذى يعيش في أتون المعركة وقعقعة السلاح فيها. والجندي في العادة ليست له الفرصة الهادئة المريحة التي يسكن فيها إلى بيت وولد ، ثم أمر الرب ارميا أن يعيش أعزب دون زوج أو ولد : « ثم صار إلى كلام الرب قائلا : لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات في هذا الموضع ، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين في هذا الموضع وعن أمهاتهم اللواتي ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم في هذه الأرض، ميتات أمراض يموتون. لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الأرض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض. لأنه هكذا قال الرب: لا تدخل بيت النوح ولا تمضى للندب ولا تعزهم لأنى نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الإحسان والمراحم. فيموت الكبار والصغار في هذه الأرض. لا يدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم ... ها أنذا مبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفي أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس » " إرميا 16 : 1-9".

لقد دعا الرب ارميا للخدمة كنبي وهو بعد شاب (1 : 6) في نحو العشرين من عمره، في السنة الثالثة عشرة للملك يوشيا ( 1 : 2 ، 25 : 3 ) في سنة (627 ق.م) . وظل نشيطاً في خدمته من ذلك الحين حتى خراب أورشليم في (586 ق.م)، طيلة حكم الملوك يوشيا ويهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين وصدقيا. وحتى بعد سقوط أورشليم، ظل يتنبأ وهو في مصر لعدة سنوات على الأقل، فامتدت خدمته نحو خمسين عاماً.

ويحتمل أنه عاش أولاً في عناثوث وكان يتردد علانية على أورشليم في المناسبات والأعياد الكبيرة، ثم سكن أخيراً في أورشليم، وكان بها في الأيام العصيبة من حصار المدينة وخرابها.

كان الملك يوشيا يخاف الله ومستعداً لخدمة يهوه، لذلك سرعان ما أعلن اصلاحاته حسب شريعة يهوه في السنة الثامنة عشرة من ملكه. إلا أن ارميا عندما دُعـي لخدمته النبوية، لم يشك اطلاقاً في أن دينونة الله ستحل على المدينة قريباً ( 1 : 11 وما بعده ) . وعندما وجد سفر الشريعة في الهيكل بعد سنوات قليلة ( 2مل 22 ، 23 ) أذاع ارميا كلمـات " هذا العهد " على الشعب الذين كانوا في المدينة وفي كل نواحي البلاد (11 : 1 - 8 ، 17 : 19 - 27) وحثهم بشدة على الطاعة للوصية الإلهية. ولكنه بعمله هذا صار موضوع كراهية شديدة وبخاصة في موطنه عناثوث. بل إن إخوته وأقاربه تآمروا عليه بإعلانهم أنه من أخطر المتعصبين ( 12 : 6 ) . وعلى أي حال، كانت أيام ارميا في عهد هذا الملك التقي أسعد أيام خدمته، وقد رثاه ارميا عند موته المبكر بمراث حزينة، نوه عنها كاتب سفر الأخبار ( 2 أخ 35 : 25 ) ولكنها لم تصل إلينا.

بعد وفاة الملك يوشيا كانت أحوال ارميا على غير ما يرام، فقد تلقى الملك يهوآحاز الذي حكم ثلاثة أشهر فقط إعلان القضاء عليه، من ارميا ( 22 : 10 وما بعده ) .

أما يهوياقيم ( 609 - 598 ق.م ) فقد أيد بدوره عبادة الأوثان، وضايق الشعب بمحبته للترف وإقامة المباني الضخمة ( ارميا 22 : 13 وما بعده )، علاوة على أن سياسته كانت مبنية على الخيانة والغدر، فقد تآمر مع مصر على سيده نبوخذ نصر. وجاءت اللحظة الحاسمة في السنة الرابعة من ملكه، حين انتصر الكلدانيون في موقعة كركميش في غربي أسيا، كما سبق أن تنبأ ارميا ( 46 : 1 - 12 ) . وفي أيام يهوياقيم ألقي ارميا خطابـه العظيم في الهيكل ( الأصحاحات 7 - 9 ، 10 : 17 - 25 ) فصمم الكهنة على قتله (الإصحاح 26 ) ، ولكـن الرؤساء ذوي النفوذ أنقذوه من أيديهم ، ولكنه تعرض للإهانة من المسئولين تلبية لرغبة الكهنـة ( ص 20 ) . ونرى من ارميا ( 36 : 1 ، وما بعده ) ، أنه لم يعد يُسمح له بالدخول إلى الهيكل، ولهذا أمره الرب أن يجمع نبواته في درج، وأن يقرأها للشعب تلميذه الأمين " باروخ " ( 36 ، 45 ) . ولما وقع السفر في يد الملك أحرقه، ولكن ارميا عاد وأملى السفر ثانية على باروخ مع إضافات جديدة.  

أما يهوياكين أو كنياهو ( 22 : 24 وما بعده) ابن يهوياقيم، فبعد أن حكم ثلاثة أشهر، أخذه نبوخذ نصر أسيراً إلى بابل، وأخذ معه عدداً كبيراً من النبلاء وخيرة الشعب (24 : 1 ، 29 : 2) كما سبق وتنبأ ارميا ( 22 : 20 - 30 ) ،

وفي عهد الملك صدقيا لم تتحسن الأمور (596 - 585 ق.م) مع أن الملك نفسه لم يكن معادياً لأرميا مثلما كان يهوياقيم، ولكن كان أكثر الناس كراهية له هم الأمراء وقادة الجيش الذين أصبح بيدهم الأمر بعد أن اجليت أفضل طبقة من الشعب إلى بابل. وظلوا في تمردهم ضد بابل. وأخيراً جاء الجيش البابلي لمعاقبة الملك الخائن الذي دخل مرة أخرى في تحالف مع مصر . لقد نصحه ارميا بإلحاح بالخضوع، ولكن الملك كان ضعيفاً وجباناً جداً أمام نبلائه، فطال الحصار، وسبب معاناة رهيبة في حياة ارميا، إذ ألقاه قادة الجيش في سجن قذر متهمين إياه بالخيانة ( 37 : 11 وما بعده ) أمّا الملك الذي استشاره سراً فقد أخرجه من السجن ووضعه في دار السجن ( 37 : 17 وما بعده ) حيث استطاع أن يتحرك بحرية وأن يتنبأ مرة أخرى. وإذ حل القضاء، أمكنه أن يتحدث عن رجـاء المستقبل (32 ، 33). ولكن بسبب استمرار ندائه للشعب بالتسليم، ألقاه المسئولون في جب موحل، ولكن أحد رجال البلاط - عبد ملك - أشفق عليه وأنقذه ( 39 : 15 - 18 )، فعاد مرة أخرى إلى دار السجن، وبقي هناك حتى فتحت أورشليم . وبعد احتلال المدينة ، عامله البابليون باحترام عظيم عندما علموا أنه تحـدث لصالحهم ( 39 : 11 - 40 : 1 وما بعده ) وأعطوه حرية الاختيار بين الذهاب إلى بابل أو البقاء في وطنه، ولكنه قرر البقاء، وذهب إلى جدليا الوالي في المصفاة، وكان جدلياً إنساناً جديراً بالثقة، ولكن عندما اغتال المعارضون الأثمة هذا الرجل بعد فترة وجيزة، قرر اليهود الذين كانوا قد تُركوا في فلسطين - مهددين وخائفين من انتقام الكلدانيين - أن يهاجروا إلى مصر، فحذرهم ارميا بشدة وأنذرهم بانتقام يهوه إذا أصروا على ذلك ( 42 : 1 وما بعده )، ولكنهم أصروا على رأيهم، بل وأجبروا النبي الشيخ على الذهاب معهم ( 43 : 1 وما بعده ). وكانت وجهتهم الأولى مدينة تحفنحيس في مصر السفلى ( الوجه البحري ) وهناك واصل ارميا مناداته بكلمة الله لزملائه الإسرائيليين ونجد شيئاً من ذلك في ( 43 : 8 - 13 ) ،ولا بد أن ارميا كان قد بلغ في ذلك الوقت ما بين السبعين والثمانين من عمره ويحتمل أنه مات بعد ذلك بقليل في مصر.

ثالثاً - صفات ارميا الشخصية: كانت عاطفة ارميا تُجل عن الوصف، عندما جلس ذات مرة أمام نفسه، والمدينة على وشك الهلاك والضياع صرخ: « أحشائي أحشائي . توجعني جدران قلبي ... لا أستطيع السكوت. لأنك سمعت يانفسى صوت البوق وهتاف الحرب » "إر 4 : 19 " . وعندما ضاق بالحياة وضاقت الحياة به إذ به يصيح « ياليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبي . ياليت لي في البرية مبيت مسافرين فأترك شعبي وأنطلق من عندهم لأنهم جميعاً زناة جماعة خائنين » "إر 9 : 1 و 2" فإذا تحولنا إلى مراثيه، وقفنا أمام حنان ربما لم يعرفه أحد سوى ذاك الذى أطل على المدينة من جبل الزيتون وبكى عليها. أو بولس عندما صاح: « أقول الصدق في المسيح. لا أكذب وضميري شاهد لي بالروح القدس، إن لي حزناً عظيما ووجعاً في قلبي لا ينقطع، فإني كنت أود لو أكون أنا نفسى محروما من المسيح لأجل إخواتى أنسبائي حسب الجسد » "رو 9 : 1 - 3".

لقد أحب ارميا أورشليم وأحب بلاده وأحب عناثوث مدينة ومسقط رأسه ، لكنه كان في وسطهم: « كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم اعلم أنهم فكروا علي أفكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلايذكر بعد اسمه . فيارب الجنود القاضي العادل فاحص الكلى والقلب، دعني أرى انتقامك منهم لأنى لك كشفت دعواي . لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا. لذلك هكذا قال رب الجنود: ها أنذا أعاقبهم، يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع ، ولا تكون لهم بقية لأنى أجلب شراً على أهل عناثوث سنة عقابهم» " إر 11 : 19 - 23 ". كان ارميا هنا أقرب ما يكون من إيليا وروحه، ولم يكن بعد قد تعلم روح المسيح الغافر، والذى طلب إلى تلاميذه أن تبدأ كرازتهم من مدينة أورشليم التي حاربته وصلبته على هضبة الجلجثة !!

كان بطبيعته رقيقاً في مشاعره وعواطفه، وإن كانت له صورة مغايرة في رسالة القضاء القاسي، التي كان عليه أن ينادي بها. لقد جعله الله في تبليغ رسالته مثل الحديد صلباً لا يلين ( 1 : 18 ، 15 : 20 ). هذا التناقض بين مشاعره الشخصية الرقيقة الدافئة، وبين رسالته الصارمة، يظهر بوضوح - مرات عديدة - في تعبيراته القلبية في نبواته. لقد ابتهج أولاً عندما تكلم الله إليه ( 15 : 16 )، ولكن سرعان ما صارت كلمات الله في قلبه مصدراً للألم والمعاناة ( 15 : 17 وما بعده ). كان يود أن لا ينطق بها، لكنها اشتعلت في قلبه كالنار (20 : 7 ، 23 : 9). لقد كان في حاجة إلى المحبة، ولكن لم يسمح له بالزواج (16 : 1 وما بعده ) . لقد اضطر أن يهجر مباهج الشباب ( 15 : 17 ). لقد أحب شعبه أكثر مما فعل غيره، ومع ذلك اضطر إلى التنبؤ عليهم بالشر، وبدا كما لو كان عدواً لأمته، وكثيراً ما جعله هذا حزينـاً. لقد شعر بعمق العداوة التي كان هو ضحيتها لأنه لم يعلن إلا الحق. (انظر شكواه 9 : 1 ، 12 : 5 ، 15 : 10 ، 17 : 14 - 18 ، 18 : 23 …) وفي هذا الصراع المؤلم بين قلبه ووصايا الرب، كان يتمنى لو أن الله لم يكلمه، بل لقد لعن اليوم الذي ولد فيه ( 15 : 10 ، 20 : 14 - 18 ، انظر أيوب 3 : 1 وما بعده ).

كان ارميا أشبه ما يكون " بالمخلّص المتألم" أكثر من كل قديسي العهد القديم، وقد ظل ككاهن يصلي من أجل شعبه حتى نهـاه الله عن ذلك ( 7 : 16 ، 11 : 14 ، 14 : 11 ، 18 : 20). لقد كان عليه - أكثر منهم جميعهم - أن يتألم بسبب غضب الله على الشعب. لقد شعر أفراد الشعب أنفسهم أنه كان يريد خيرهم، ويمكننا أن نرى ذلك في أن الشعب المتمرد - الذين فعلوا دائماً عكس ما أمرهم به ، والذين اعتبروه نبياً غير مرغوب فيه - اضطروه للذهاب معهم إلى مصر لأنهم أدركوا أنهم بحاجته.