المسيح المصلوب, فصحنا

كانت قيود الشيطان, الحية القديمة, محلولة. ومأذون لها من الأعالي أن تَفْعلَ ما يحلو لها مع المعلّم, فسحقت عقبه.

وإذ سمروا ربّ المجد على الصليب, انسحبت الشمس من فوق رؤوسهم, والتحف النور ظلاماً في وسط النهار.

(وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ أَنِّي أُغَيِّبُ الشَّمْسَ فِي الظُّهْرِ وَأُقْتِمُ الأَرْضَ فِي يَوْمِ نُور وَأُحَوِّلُ أَعْيَادَكُمْ نَوْحاً وَجَمِيعَ أَغَانِيكُمْ مَرَاثِيَ). (أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً وَأَجْعَلُ الْمِسْحَ غِطَاءَهَا). (وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ (الثانية عشرة ظهراً) كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ (الثالثة بعد الظهر)) رغم كون القمر بدراً. وخوفاً من ظلمةٍ ليست في محلّها, غادر الكثيرونَ المكان.

(وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ (الثالثة بعد الظهر) صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي. فَقَوْمٌ مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا). (بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ).

على الصليب, لم يَشْكُ المعلّم كل آلام الجلد, ولا اكليل الشوك والمسامير, لكنه شكا عطشاً. فالذي حمل خطايانا, حمل عطشنا, لئلا يصيبنا ما أصاب الغني وسط نيران الجحيم.

(وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ فَمَلَأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ) ليَتِمَّ الْكِتَابُ: (وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ).

(وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَالُوا: اتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ), ساخرين منه لأن إِيلِيَّا يسبق المسيّا. (فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ) صَرَخَ (أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ) وقال: (قَدْ أُكْمِلَ). (الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ). وكمنتصرٍ غرس رايته على المرتفعات الدهرية. (كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ).

ولمـّا استوفى متطلبات الموت وعلاماته, وأكمل نزفُ الذبيحة بما يكفي خلاص العالم, زايله الاحساس بفقدان رِضَا ابيه فقال: (يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي). (وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ) ليَتِمَّ الْكِتَابُ: (وَبَعْدَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أُسْبُوعاً يُقْطَعُ الْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ).

الذي (لَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ), أسندها أخيراً على الصليب. (قَدْ أَقْسَمَ الرَّبُّ بِفَخْرِ يَعْقُوبَ: إِنِّي لَنْ أَنْسَى إِلَى الأَبَدِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ).

زحف عليه الموت حتى غطّاه عن حقٍّ وعدالةٍ. لأنّ الخطيّة التي لبِسَها واللّعنة التي صار اليها, هما والموت رفيقان لا يفترقان. فأخذهما كليهما ليوفي بالواحد كيلَ الآخر. وبموته (ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ). وصار الصوتُ قوياً: (أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ). قد داس المسيّا بالموت, الموت والخطية, صانعاً تطهيراً ابدياً لخطايانا.

(سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ), (لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ).

لم تؤخذ نفسُهُ منه كبشرٍ, بل هو سكب للموت نَفْسَهُ. أما روحهُ فسكبها في يد الاب سكيباً, بل استودعها في يده كمن هو موشك ان يستردَّها.

وإذ قال المعلّم: (قَدْ أُكْمِلَ). كان رئيس الكهنة في الهيكل متسربلاً بثيابه البديعة, والخوف يملأ قلبه من ظلمةٍ ليست في مكانها. ورغم المشاعل التي أمسكها الكهنة حول رئيسهم لطرد الليل من النهار, بقيت الظلمة أقوى.

أمسك رئيس الكهنة خروف الفصح فِي الْعَشِيَّةِ, شاهراً السكين بيده والشعب ينظرون اليه باهتمام. وفجأة (ارْتَجَّتِ الأَرْضُ وَارْتَعَشَتْ أُسُسُ الْجِبَالِ. ارْتَعَدَتْ وَارْتَجَّتْ لأَنَّهُ غَضِبَ). (اِنْسَحَقَتِ الأَرْضُ انْسِحَاقاً. تَشَقَّقَتِ الأَرْضُ تَشَقُّقاً. تَزَعْزَعَتِ الأَرْضُ تَزَعْزُعاً), وسُمعت دمدمةٌ كقصفِ الرعد الثقيل.

اهتزّ النّاس وتمايلوا, وسقطوا على بعضهم أكواماً فوق أكوامٍ. وفي الجبال المجاورة تشققت الصخور وتدحرجت الى السهول بصوت تحطيمٍ شديد. وبدا كأنّ الخليقة كلّها ترتجف وتتحطّم وتتطاير شظاياها.

انطرح الكهنة حول رئيسهم المذعور على الأرض, والرعب قد عقد السنتهم. أمّا الخروف المـُمسك فهرب قافزاً فوق رئيس الكهنة, مستثمرا فرصة لن تتكرر. وإذ أخذت الظلّمة تنقشع, تراكض الكهنة من داخل الأقداس مذعورين صارخين: إِيخَابُودَ, إِيخَابُودَ. (قَدْ زَالَ الْمَجْدُ مِنْ إِسْرَائِيلَ).

أمسك أحدهم بيد رئيس الكهنة وأقامه. ونظر الاثنان كليهما برعبٍ, واحدهما للآخر. وإذ سَمع رئيس الكهنة انّ الحجاب قد انشقّ, وانفتح الطريق الى قدس الأقداس صرخ مذهولاً, وسقط على وجهه مغشياً عليه.

(وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ). (فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ اللهَ قَائِلاً: «بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!»). وملأ الخوف قلبه. والذين معه من الحراس (خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: حَقّاً كَانَ هَذَا ابْنَ اللَّهِ).

(وَكُلُّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ). وكذلك عاد قائد المئة إلى بِيلاَطُس تاركاً جنده في الموضع, ليقصّ عليه رواية لم تُسمع.

(وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ). (وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ) ليَتِمَّ الْكِتَابُ: (أَحِبَّائِي وَأَصْحَابِي يَقِفُونَ تُجَاهَ ضَرْبَتِي وَأَقَارِبِي وَقَفُوا بَعِيداً).

يا لفصحٍ قديمٍ صارَ نَوحاً, فيه بكت النسّوة, وغابت الشّمس, وانشّق حجاب الهيكل من فوق إلى أسفل. ويا لفصحٍ جديدٍ أعطانا ثقة (بِالدُّخُولِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ).

بعد فوات الأوان, ورغم كلّ معرفته, أدرك الشيطان أن مملكته قد ضاعت. كان غبياً إذ ظنّ المعلّم المقيّد اليدين والقدمين على الخشبة ضعيفاً مهزوماً, ففوجئ به وقد (جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ اشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ).

مأخوذ من كتاب (مخلّص العالَم) لمؤلفه القس نبيل سمعان يعقوب