مطبوعات
تسجيل

الخضوع للسلطات

(لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِحَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً.فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ.لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً بِسَبَبِ الضَّمِيرِ.فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هَذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أَيْضاً إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ. فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ.) رومية13: 1-7.

في هذا المقطع يشرح الرسول بولس للمؤمنين واجبهم تجاه السلاطين والولاة في أي مجتمع يقيمون فيه. مؤكداً لهم أن الله هو الذي أسس الحكومات البشرية وهو الذي أعطى البعض من الناس السلطة كي يحكموا وكي يعاقبوا المجرمين كل بحسب ذنبه.  

وبناء عليه يدعوا كل المؤمنين للخضوع لهذه السلطات كواجب, ويقدم لذلك بعض الأسباب ومنها:

.

 

أولاً- لأن السلاطين مرتبه من الله:

كانت كنيسة روما تضم في صفوفها البعض من المسيحيين ذوي الأصول اليهودية المتأثرين بناموس موسى, الذين ظنوا أن الله يتعامل مع الكنيسة كما كان يتعامل مع اليهود كمملكة, أو كشعب واحد.

لكن الحقيقة هي خلاف ذلك, فالكنيسة الآن ليست مملكة وليست أمة, لكنها عبارة عن أفراد قد قرروا أن يعطوا قلوبهم للرب, وهم ينتمون لممالك وقوميات مختلفة, والرب يتعامل معهم على هذا الأساس, أي كأفراد.

هؤلاء المسيحيون من أصل يهودي, والذين لم يفهموا المسيحية بعد على حقيقتها, كان يعسر عليهم بحسب ناموس موسى المسيطر على أذهانهم, والذي هو جزء من تاريخهم أن يخضعوا للحكام الرومانيين الوثنيين بحسب الوصية (فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَليْكَ مَلِكاً الذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ. مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَليْكَ مَلِكاً. لا يَحِلُّ لكَ أَنْ تَجْعَل عَليْكَ رَجُلاً أَجْنَبِيّاً ليْسَ هُوَ أَخَاكَ)تثنية17: 15. فخشوا أن يحسب الله خضوعهم لأولئك الحكام الوثنيين عصياناً له.

وهذا ما عبّر عنه اليهود أيام المسيح عندما سألوه (أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟)لوقا20: 22. بل هو الذي قادهم بشكل دائم للثورة وللعصيان على الإمبراطورية الرومانية, مما دفع كلوديوس قيصر إلى نفي كل اليهود من روما (لأَنَّ كُلُودِيُوسَ كَانَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يَمْضِيَ جَمِيعُ الْيَهُودِ مِنْ رُومِيَةَ) أعمال18: 2. ثم في سنة(70م) قادهم إلى تلك المأساة الكبرى, أي إلى دمار أورشليم على يد تيطس الروماني, وقتل ما ينوف على مليون ونصف يهودي وتشتت البقية في كل ممالك العالم.

لذلك يقول الرسول بولس للكنيسة في روما ومن خلالها لكل الكنائس (لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ), وهذه جملة مطلقة تشمل جميع الحكام والمتسلطين في كل المجتمعات المنظمة, بغض النظر عن أسمائهم أو ألقابهم أو نوع حكمهم أو وسيلة تسلطهم.

مما يعني أن الكنيسة الآن ليست مملكة ثيوقراطية على شاكلة الأمة العبرانية, الكنيسة الآن مجموعة أفراد تنتمي لمجتمعات مختلفة, وعلى كل فرد فيها أن يخضع للسلاطين الفائقة لأنها مرتبة من الله.

ولأنه قد يخطر في أذهان المؤمنين هذا السؤال, ما هو موقفنا إذا كانت الحكومات فاسدة وشريرة, ما هو موقفنا إذا طلب القيصر ليس الأمور التي تخصه فقط, لكن أيضاً تلك التي تخص الله.

ونحن نعرف أن هذه المشكلة المزعجة قد واجهت فعلاً المسيحيين الأوائل, إذ أن القيصر تعدى الحدود التي رسمها له الله وتجاوز السلطان الممنوح له عندما طلب أن يُلقب برب وأن تقدم له الذبائح والقرابين والبخور, ومن لا يفعل ذلك يُحكم عليه بالموت. ماذا يفعل المسيحيون في مثل هذه الحالة؟

الرسول بولس يقول: (إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً) وهذا يعني أنه مهما كان السلطان شريراً ينبغي أن لا يقاوم, فالمسيحية ليست ديانة ثورات ولا انقلابات, إنها حياة خضوع لكل من هو في منصب, إنها خضوع مطلق للقانون.

فسواء كان القيصر يحكم دكتاتورياً أو ديمقراطياً ينبغي الخضوع له, طالما أنه لم يتعدَّ سلطته المفوضة إليه من قبل الله, وطالما أنه لم يقتحم الحدود التي ليست له, أي التي تخص الله, أما إن فعل فحينئذ (يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ) أعمال5: 22. وهذه الطاعة لله قادت الكثيرين على مر الأجيال لساحات الموت والصلب والحرق و الإهانة.

نعم هناك أوقات ينبغي أن يطاع فيها الله أكثر من الناس مما يؤدي لجلب غضب الناس, وفي حالات كهذه على المؤمن أن يتلقى غضب الناس (الحكام) دون أن يثور ضدهم أو يشارك بأية محاولة للإطاحة بهم.

ولكن هل هذا يعني أن الله يصادق على كل ما يفعله الحكام ولاسيما الأشرار منهم. هل هذا يعني أن الله وراء الفساد والاستبداد والوحشية والظلم, كلا.

أن تكون السلطات مرتبة من الله شيء وأن يوافق الله على كل ما تفعله هذه السلطات شيء آخر. السلطة وكالة, والسلطان وكيل, ولابد للوكيل أن يدفع حساب وكالته أمام الله.

على كل تستطيع الكنيسة بشكل دائم أن تعارض القيصر في مطاليبه غير المشروعة, عندما تتجاوب مع مطاليبه المشروعة والقانونية كما علم الرب يسوع المسيح (أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ) لوقا20: 25.

ثانياً- لأن السُلطان خادم الله.

إن الله الذي نعبده هو إله ترتيب, وقد رتب بحكمته الأزلية قيام الحكومات, ونحن نعلم أن وجود الحكومات أفضل بما لا يقاس من عدم وجودها, والناس تتمنى دائماً أن تعيش في مجتمعات تحكمها سلطة.

أما المجتمعات الفوضوية فهي المجتمعات التي يهرب منها الناس والتي فيها يكون كل إنسان قانوناً لنفسه وللآخرين. إنها مجتمعات تعيش شريعة الغاب, شريعة القوي الذي يأكل الضعيف دون خوف من رادع أو ضمير.

إن وجود أية حكومة هو أفضل من عدم وجودها, لأن بالحكومة يأتي القانون, وبغيابها يغيب القانون.

إن الحاكم بحسب تعبير الكتاب المقدس هو خادم الله فمهما كان منصب هذا الحاكم, ملك, وزير, مدير, قاضٍ, يبقى خادم الله للصلاح.

وبما أن المؤمن شخصٌ صالحٌ, أي يتقيد بالقانون ولا يتجاوزه, فهذا يعني أن الله أقام هذا الخادم لخير هذا المؤمن (أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ).

إن المؤمنين الذين يفكرون بانتهاك القانون عليهم أن يخافوا العقاب, فإن أرادوا أن يتمتعوا بالحياة الهانئة المطمئنة, الحياة التي لا يدخلها الخوف من الغرامات والعقوبات والمحاكم والسجون, عليهم أن يكونوا مواطنين يراعون القانون.

ثالثاً- بسبب الضمير

كما قلنا إن المؤمن رجل قانون, أي يحترم ويطيع القانون, وهذه الطاعة تتجلى أيضاً بالمساندة المالية للدولة وذلك من خلال دفع كل الضرائب والرسوم التي تترتب عليه, وهو يعلم تماماً أن هذا الأمر ينبغي أن يفعله لتستمر الدولة قائمة.

المؤمن هو رجل يحترم نفسه, وهذا الاحترام يتجلى أمام الذين هم في مراكز السلطة, فهو يخضع لأوامرهم ويُظهر لهم الاحترام ولا يغيظهم, حتى لو كانوا من جهة أنفسهم غير محترمين. وهو لا يشترك بأي كلام سيء ضدهم, من أصغر موظف في الدولة إلى رأس الدولة, لأنه مكتوب (رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءاً) أعمال22: 5.

وكل هذا يفعله المؤمن لكي يبقى ضميره بلا لوم من جهة القانون ومن جهة الله.

قارن أيضاً قول الرسول بطرس للمؤمنين: (فَاخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ. إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ الْكُلِّ، أَوْ لِلْوُلاَةِ فَكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ لِلاِنْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي الشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي الْخَيْرِ. لأَنَّ هَكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ أَنْ تَفْعَلُوا الْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ النَّاسِ الأَغْبِيَاءِ.كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ اللهِ. أَكْرِمُوا الْجَمِيعَ. أَحِبُّوا الإِخْوَةَ. خَافُوا اللهَ. أَكْرِمُوا الْمَلِكَ. أَيُّهَا الْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ، لَيْسَ لِلصَّالِحِينَ الْمُتَرَفِّقِينَ فَقَطْ، بَلْ لِلْعُنَفَاءِ أَيْضاً.لأَنَّ هَذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَاناً مُتَأَلِّماً بِالظُّلْمِ. لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ الْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهَذَا فَضْلٌ عِنْدَ اللهِ) 1بطرس2: 13- 20.

بقلم خادم الرب, نبيل سمعان يعقوب