دراسات عامة
تسجيل

المشاكل العقائدية التي واجهت المسيحيين

في القرنيين الثاني والثالث الميلادي وادت لاضطهادهم

مقدمة: فرضت الظروف على المسيحيين في القرنيين الثاني والثالث الميلادي ان يواجهوا حربا على جبهتين , الاولى خارجية ومن خلالها كانت الكنيسة تجاهد للحفاظ على وجودها في مواجهة محاولات الدولة الرومانية القضاء عليها. الثانية داخلية ومن خلالها كانت الكنيسة تجاهد لتحافظ على نقاوة وطهارة عقيدتها.

فماذا عن هذه الحرب الداخلية

نستطيع ان نقول ان هذه الحرب تشكلت من المنتمين الى الكنيسة فالداخلون الى الايمان المسيحي كانوا اما من خلفية يهودية وهؤلاء حملوا معهم تراثهم وناموسهم الذي امتد على مدار (1500) سنة والذي ملخصه ان الخلاص بواسطة الاعمال الصالحة أي حفظ الناموس. او كانوا من خلفية وثنية وهؤلاء حملوا معهم فلسفتهم الوثنية المرتبطة بعبادتهم . فأحضروا معهم تراثهم الديني أي كل ما يتعلق بأعيادهم الوثنية وتماثيلهم ونمط عبادتهم.

وهكذا وجدت الكنيسة نفسها تجاهد ضد الفلسفة اليونانية او الناموس اليهودي. وما زاد الامر سوءا هو عدم توفر الكتاب المقدس بين ايدي الجميع مما افسح المجال لظهور الصراعات داخل الكنيسة الواحدة, او بين الكنائس المتعددة, والذي أدى الى فرز شيع جديدة.

اهم الهرطقات التي ظهرت في الكنيسة في ذلك الوقت:

                       1)الهرطقات الناموسية

كان يفترض انه بعد انعقاد مجمع اورشليم الأول والذي تم بحضور الرسل واقر اعفاء الأمم من مطاليب الناموس اليهودي ان المسألة انتهت.

لكن المسيحيين من خلفية يهودية كانوا دوما يتطلعون الى ماضيهم وتراثهم فلم يستطيعوا ان يتجاهلوا فرائضهم وطقوسهم وهيكلهم وتعاليمهم لذلك كانوا يصرون ان هذا الناموس الطقسي مازال ملزما للبشر وان الأمم عليهم ان يتهودوا أولا ويختتنوا لينالوا الخلاص فيما بعد بالمسيح يسوع. لكن بعد خراب الهيكل سنة (70م) ودمار اورشليم (135م) على يد الرومان تضاءل نفوذهم بدرجة كبيرة

                     2)الهرطقات الفلسفية

أ‌-             الغنوسية:

وهي من اعظم التهديدات الفلسفية للإيمان المسيحي . وبلغت قمة نفوذها حوالي عام (150م). وظهرت هذه الفلسفة من خلال محاولة تفسير – اصل الشر في العالم- فتوصل اتباعها الى نتيجة مفادها, ان الشر مرتبط بالمادة, وان الخير مرتبط بالروح. وقالوا ان الله روح, والانسان يستطيع ان يقيم علاقة مع الله من خلال الجانب الروحي من طبيعته.

وإذ أرادوا ان يفسروا قصة الخلق قالوا, ان الله لم يخلق المادة, ولكن انبثق منه كائن وسيط فيه شيء من المادية على حساب الجانب الروحي. وهذا الكائن الوسيط انبثق منه كائن اخر فيه شيء اكثر من المادية على حساب الجانب الروحي, وهكذا كائن عن كائن, الى ان وصل الامر الى كائن او اله خلق العالم المادي الشرير وبنظرهم هو يهوه اله العهد القديم.

اما عن المسيح فقالوا,  انه الصلاح المطلق, وبالتالي لا يمكن ان يكون له جسد مادي. فالطبيعة البشرية ليسوع ليست سوى وهم, وبناء عليه فقد حاربوا كل ما هو مادي بإحدى طريقتين:

1-بالممارسات النسكية الصارمة. فعذبوا أجسادهم, وتناولوا طعاما تقشفيا, وارتدوا ثيابا بالية, وفعلوا كل ما يمكن لإذلال الجسد الذي هو شر بنظرهم.

2-بترك الحرية الكاملة للجسد- فعاشوا الإباحية المطلقة على اعتبار ان الجسد مصيره الضياع والزوال.

وقد تم الرد على هذه الهرطقة مع بداية المسيحية في رسائل كولوسي ويوحنا الأولى ويهوذا الخ...

ب‌-         المانيّة

أسسها شخص اسمه ماني وهي تشبه الغنوصية الى حد ما وظهرت في منتصف القرن الثالث الميلادي وهي خليط ما بين المسيحية والزرادشتية وبعض الأفكار الدينية الشرقية.

قال ماني بوجود مبدأين ابديين متعارضين هما النور, والظلمة. وقال, ان الانسان الأول جاء الى الوجود بانبثاقه من كائن, كان بدوره قد انبثق من رئيس مملكة النور, ولكن رئيس مملكة الظلمة نجح في خداع الانسان الأول, فامتزج فيه النور بالظلمة.

وقال, ان روح الانسان مرتبط بمملكة النور, وجسده مرتبط بمملكة الظلمة. والخلاص بنظر ماني يتركز في اطلاق وتحرير النور في روح الانسان من أسر الجسد.

ركزت المانية كثيرا على الحياة النسكية واعتبرت الغريزة الجنسية شر عظيم, ودعت بالتالي  الى سمو حياة العزوبية.

ت‌-         الافلاطونية الجديدة

نشأت في الإسكندرية على يد شخص يدعى (امونيوس) في القرن الثالث الميلادي. ونادت بوجود كائن مطلق هو الله, الذي انبثق منه كل ما هو كائن. أي ان الخليقة بأكملها منبثقة من الله, وانه في النهاية ينبغي ان تعود الخليقة للاندماج في الله الذي انبثقت منه.

وقالت هذه الافلاطونية الجديدة, ان ما يساعد على اندماج الانسان مع الله هو التأمل العقلي, والالهام السري, الذي يأتي من الله. أما اختبار النشوة فهو اسمى حالة يمكن ان يختبرها الانسان في علاقته مع الله.

انتهت هذه الفلسفة في مطلع القرن السادس الميلادي.

3) المغالطات اللاهوتية

أ‌-             المونتانية

أسسها شخص يدعى (مونتانوس) لمواجهة مشكلة انتشار الطقسية في الكنيسة واعتماد الكنيسة الزائد على قيادتها البشرية بدلا من الاعتماد على ارشاد الروح القدس, فعارض (مونتانوس) إعطاء الاسقف مكانة متميزة في الكنيسة المحلية. ولمقاومة الطقسية, والتنظيم البشري في الكنيسة تطرف في أفكاره المتعلقة بالروح القدس, وبالمجيء الثاني للمسيح. فاصبح لديه مجموعة من التفسيرات الخاطئة لنصوص الكتاب المقدس.

فقال مثلاً: ان الوحي الكتابي لم ينقطع, وان الروح القدس يتكلم من خلاله, كما تكلم من خلال الرسل في الكنيسة. وقال ان ملكوت المسيح قريب جدا وسوف يستعلن في بلدة (ببيوزا) في (فريجية) وانه شخصيا سيكون له مكانة مرموقة في هذا الملكوت.

ادينت هذه الهرطقة في مجمع القسطنطينية عام (381م), واعتبر كل المونتانيين مثل الوثنيين.

ب‌-         الملكانية

أسسها بولس السميساطي, وكان اسقف انطاكية وبنفس الوقت كان يشغل مركزا سياسيا مرموقا في حكومة زنوبيا ملكة تدمر.

ملخص تعاليمه, الله اقنوم واحد وفي هذا الاقنوم يمكن ان نميز (الكلمة و الحكمة), وهما عبارة عن صفتين وليسا اقنومين. الكلمة دخل الانسان يسوع كما يدخل قبلا في الأنبياء ولكنه دخل في يسوع استثنائيا وبأكبر قدر. فالمسيح كان انسانا حاويا الكلمة. أي ان المسيح غير الكلمة والكلمة غير يسوع. ولأن يسوع قد سلك بأمانة وتدقيق امام الله ولأن الكلمة قد اتحد به فقد رفعه الله كمكافأة له واعطاه اسما فوق كل اسم.

ادينت تعاليم بولس السميساطي, في مجمع عقد في انطاكية (268م) برئاسة (ايلينوس) اسقف طرسوس, وحُرمت هرطقته وتم خلعه واختيار اسقف جديد بدلا عنه.

ث‌-         السابلية

أسسها سابيليوس وهو ليبي الجنسية ملخص تعاليمه الله شخص واحد وقد انتحل ثلاثة أدوار في ثلاثة حقب من الزمن. فالأسماء اب, ابن, روح قدس. ليست ثلاثة أقانيم, بل هي ثلاثة تجليات لإله واحد.

فالله لُقب بالآب لأنه الخالق, ولقب بالابن لأنه الفادي, ولقب بالروح القدس لأنه المعزي.

وقد اصدر اسقف روما (كاليسوس) حرمانا ضد (سابيليوس) واتباعه.

4)الانقسامات الكنسية

أ‌-             الجدل حول احتفال القيامة

ظهر الجدل حول احتفال القيامة نحو منتصف القرن الثاني حيث دار الحوار حول السؤال عن التاريخ الصحيح للاحتفال بعيد القيامة, فقد تمسكت الكنيسة في الشرق بان احتفال القيامة ينبغي ان يكون في الرابع عشر من شهر نيسان, بغض النظر عن اليوم الذي يوافق هذا التاريخ من أيام الأسبوع المختلفة. وهو نفس تاريخ احتفال اليهود بالفصح في تقويمهم اليهودي. بينما اسقف روما (انيستوس) كان يرى ان عيد القيامة ينبغي ان يتم الاحتفال به في يوم الاحد الذي يأتي مباشرة بعد الرابع عشر من نيسان. وبقي هذا الصراع حتى انعقد مجمع نيقية (325م) وتبنى رأي الكنيسة الغربية.

ب‌-         الجدل حول المرتدين

تبلور هذا الجدل بعد عام (300م) كنتيجة لاضطهاد (دقلديانوس) للكنيسة. فظهر ما يسمى بالجدل (النوفاتي) في روما, والجدل (الدوناتي) في شمال افريقيا. وفي كلا الحالتين كان السؤال: ماذا ينبغي ان تفعل الكنيسة بالذين تراجعوا عن ايمانهم, هل يمكن قبولهم في الكنيسة مرة أخرى.

وهكذا انقسمت الكنيسة بين راغب في إعطاء فرصة للتوبة لهؤلاء الذين سقطوا وبين رافض لهم. ولكن في النهاية انتهى هذا الجدل بانتهاء ذلك الجيل.

خاتمة.  

ان نتائج المغالطات والمجادلات والهرطقات لم تكن دائما هدامة فمثل هذه الأمور ساعدت الكنيسة في صياغة عقيدتها وفي بنيان جسدها التنظيمي. وستبقى الكنيسة كما بدأت لا تقوى عليها كل قوات الجحيم.

ربما في أيامنا هذه يكثر الجدل والحوار والرفض والقبول ولكن بدل ان ننظر لمثل هذه الأمور نظرة سلبية دعونا ننظر اليها بإيجابية متطلعين الى مستقبل افضل نكون فيه جميعا بعلاقة اكثر استقامة مع ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي احب الجميع ومات من اجل الجميع ليقدس لنفسه شعبا غيورا في اعمال حسنة.

ق. نبيل سمعان يعقوب