دراسات عامة
تسجيل

المشاكل الأخلاقية التي واجهت المسيحيين في

القرنين الثاني والثالث الميلادي وأدّت لاضطهادهم.

عندما بدأت الكنيسة تكبر وتنمو في العدد وتنتشر في كل مستويات المجتمع الروماني بدأ المسيحيون كأفراد يواجهون المشاكل في علاقاتهم بذلك المجتمع. فكيف يتعاملون يوميا مع الناس الذين ينتمون الى ممالك أرضية, بينما هم في حقيقة ذواتهم رعية ملكوت سماوي (اهل بيت الله ورعية مع القديسين). لذلك أصرت الكنيسة الأولى على الانفصال والانعزال عن الأعضاء الاخرين في المجتمع من الوثنيين في جميع العلاقات الإنسانية التي يمكن ان تُعثر صغار المؤمنين, او تعثر الوثنيين, او تسيء بشكل او بآخر لجسد المسيح.

ومن بعض هذه التحديات التي واجهت المسيحيين بشكل يومي وجعلتهم ينفصلون عن المجتمع الوثني الذي يعيشون فيه:

1- اللحم الذي يباع في الأسواق والمذبوح للأوثان, والكتاب يقول:

(25كل ما يباع في الملحمة كلوه غير فاحصين عن شيء ... 27وإن كان أحد من غير المؤمنين يدعوكم وتريدون أن تذهبوا فكل ما يقدم لكم كلوا منه غير فاحصين... 28ولكن إن قال لكم أحد: «هذا مذبوح لوثن» فلا تأكلوا..)1كورنثوس10.

(18..أَلَيْسَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الذَّبَائِحَ هُمْ شُرَكَاءَ الْمَذْبَحِ؟...20بل إِنَّ مَا يَذْبَحُهُ الأُمَمُ فَإِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِينِ لاَ لِلَّهِ. فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ شُرَكَاءَ الشَّيَاطِينِ.) اكورنثوس10.

بمعنى ان الذين يأكلون من الذبائح يشتركون في عبادة نفس الإله الذي ترفع له الذبائح على المذبح. وما يذبحه الأمم هو للشياطين وبالتالي التناول من هذه الذبائح يعني الاشتراك في عبادة الشيطان الذي تُرفع الذبيحة على مذبحه. وكانت النتيجة ان المسيحيين قاطعوا الذين يبيعون هذه اللحوم. فصاحب الملحمة من جهته اعتبرهم أشخاصا يحاربونه في رزقه اذ يقاطعونه فابغضهم, والجيران من جهتهم اعتبروا المسيحي الذي لا يأكل على مائدتهم التي تحوي ذبائح للوثن شخصا غير ودود ولا يحترم الجيرة فاغتاظوا منه وحقدوا عليه.

2-سلوك المجتمع الوثني, وملبسه وطريقة كلامه, وزينته, الخ.. والكتاب يقول:

(15 لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ.) 1يوحنا2.

الانسان الوثني يأكل ويشرب ويلبس لكي يشير اليه الآخرين, لكي يُمتدح من الآخرين. وهذا ليس سلوك المسيحي الذي يريد ان يرى فيه الاخرون يسوع. الوثني يقول: أنا, المسيحي يقول: لست انا

3-اين يذهبون لأجل التسلية, هل الى حلبات المصارعة حيث تسيل الدماء, ام الى الملاعب العامة حيث الحديث البذيء ام الى البيوت العامة حيث السكر والعربدة. والكتاب يقول:

(..أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟) 2كورنثوس6.

4-هل يذهب أطفال المسيحيين الى المدارس العامة حيث يتعلمون الفلسفة الوثنية.

5-هل يستطيع النحات المسيحي ان يعمل في تزيين المعابد الوثنية او يصنع تمثالا لإله وثني. ان المقاومة التي واجهها الرسول بولس من صانعي التماثيل في افسس, مازالت ماثلة في اذهانهم (اعمال19). فهؤلاء قاموا ضد بولس لأنهم ادركوا ان التعاليم المسيحية تتعارض مع المعابد والتماثيل الوثنية, وبالتالي فالمسيحية تحاربهم في رزقهم اذ هم يعيشون من صنع التماثيل. بتعبير اخر هم لم يهتموا للتعاليم المسيحية ان كانت ضد التعاليم الوثنية أو لا, هذا لا يعنيهم. كل اهتمامهم منصب على رزقهم المرتبط بالعبادة الوثنية, فان كانت المسيحية ضد معابدهم, فهي ضد رزقهم, وبالتالي ينبغي عليهم محاربتها.

6-هل يذهب المسيحيون المرضى الى المشافي العامة حيث كان الكاهن يصلي ل (إسكو لابيوس ) اله الشفاء عند اليونان.

7- امّا الخدمة في الجيش الروماني فكانت من اعظم المشاكل التي واجهها المسيحيون ابتداءً من نهاية القرن الثاني الميلادي. فالحرب بنظرهم تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس, وسفك الدماء تحت أي شكل كان هو امر بغيض, قال جستين مارتن: (الكنيسة لا تعرف الحرب.. المسيحيون مستعدون ان يستشهدوا ويقاسوا الالام في سبيل شهادتهم للحق ولكنهم لا يقتلون الاخرين) وقال ترتليان: (عندما امر السيد تلميذه بطرس ان يرد سيفه الى غمده فانه جرد كل جندي من سلاحه) 

إضافة الى القَسم العسكري الذي يُردد سنوياً, والذي يربط الجندي بالإمبراطور رباطا غير مشروط. أي انه قسم يربط الجندي بالولاء للإمبراطور وليس للوطن.

وهكذا وجد المسيحيون انفسهم لهذه الأسباب وغيرها, انهم لا ينتمون الى المجتمعات التي يعيشون فيها. نعم هم فيها ولكنهم ليسوا منها. مما جعلهم محتقرين من قبل الطرف الاخر وتم اعتبارهم أشياء ضارة ينبغي التخلص منها.

وهكذا بمرو الوقت تنامى العداء للمسيحية وصار هناك شعور عام لدى الناس بان المسيحيين هم جماعة ملحدة تثير غضب الآلهة التي تصب عليهم الكوارث والامراض.

فبدأ بعض الرعاع يجرون المسيحيين للمعابد واجبارهم بالقوة على تقديم الذبائح للأوثان, ثم تطور الامر الى درجة ان الغوغاء سارت في الشوارع لتحطم كل ممتلكات المسيحيين. ومع الأسف فهذه الأمور تمت في وقت كانت تعاني فيه الإمبراطورية الرومانية من عدم الاستقرار, ممازاد الامر سوءا, وجعل القادة يعتبرون ما يحدث من أمور تهدد سلامة الإمبراطورية الرومانية ويجب ان يعالج يشكل جدي.

قبل عام (250م) كان الاضطهاد على المسيحيين عفويا في أساسه وفي اغلب الأحيان كان نتيجة لأعمال شغب يقوم بها جمهور الشعب اكثر منه نتيجة سياسة دولة. اما بعد ذلك التاريخ فقد اصبح الاضطهاد هو السياسة المدروسة للحكومة الرومانية وبالتالي صار أوسع انتشارا واشد رعباً.  

في عام (249م) اختار الجنود الرومان (ديسيوس) ليكون امبراطور روما. ولأن البلاد كانت تمر في حالة من عدم الاستقرار, اتخذ بعض الإجراءات الحاسمة ليعيد الوحدة الى الإمبراطورية وترجع لروما سمعتها. فكان اول ما فعله انه اصدر امرا ملكيا يقول فيه: انه ينبغي على جميع الاحرار في الإمبراطورية من رجال ونساء وأطفال ان يقدموا الذبائح لآلهة الإمبراطورية, وان يأكلوا من لحوم الذبائح. واي شخص يقدم ذبيحة يُعطى شهادة بذلك.

فارتعد المسيحيون من الخوف لأن كل شخص فيهم يعلن ايمانه امام الاخرين يُعرض نفسه للامتحان امام المذابح الوثنية. والمسيحي يعلم انه ان قدم الذبيحة للوثن, أو إن اكل منها صار شريكا مع الشياطين, ومن المحال ان يفعل ذلك. وبالتالي فان حكم الموت ينتظره.

 وهكذا انقسم المسيحيون في تصرفهم امام هذا الامتحان. فبعضهم مع الأسف سارع لتقديم الذبائح لينجو من الموت. والبعض الاخر جرهم جيرانهم الى هذه الذبائح خوفا عليهم, او احتقاراً لهم. والبعض الاخر قدموا الذبيحة برعب وكأنهم هم الذبيحة. وقسم لا بأس به قرر الهرب, وَآخَرُونَ عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا النَّجَاةَ لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ.

ومن بين الذين استشهدوا في اضطهاد الامبراطور (ديسيوس), كان (فابيان) اسقف روما, و (الكسندر) اسقف اورشليم, و(بابيلاس) اسقف انطاكية.

و(لأَنَّهُ لاَ تَسْتَقِرُّ عَصَا الأَشْرَارِ عَلَى نَصِيبِ الصِّدِّيقِينَ) مزمور125. قُتل (ديسيوس) في احدى المعارك (251م), فخلفه (غاليوس) الذي استمر على نهج سلفه, ولكنه كما شارك في قتل المسيحيين قُتل هو الاخر سنة (253م) فخلفه (فاليريان).

في البداية عطف فاليريان على المسيحيين فأوقف اضطهادهم, ولكن المشاكل الاقتصادية التي كانت تواجه الإمبراطورية والحدود المهددة من الفرس والبرابرة, جعلته كسابقيه يصدر مرسوما سنة (257م) يأمر فيه كل رجل دين مسيحي لا يذعن لأمر الامبراطور يُقتل. وجرد كل رجال مجلس الشيوخ المسيحيين والموظفين من رتبهم وصادر أملاك الجميع وارسل الكثيرين الى معسكرات العمل الشاق.

فما كان من المسيحيين إلا ان واجهوه بالثبات, وظهرت رغبة عارمة عند الكثيرين في الاستشهاد, فماتوا اما بقطع رؤوسهم او بإحراقهم بالنار او بإطعامهم للوحوش.

ولأن الله لا يشمخ عليه والذي يزرعه الانسان إياه يحصد أيضا, في احدى معاركه ضد الفرس اُسر (فاليريان) وقتل عام (260م), فخلفه ابنه (غالينوس), الذي رأى انه من الحكمة ان يصادق المسيحيين بدل اضطهادهم, وكان هذا اعترافا من (غالينوس) بان الاضطهاد قد فشل. وربما رأى (غالينوس) ان اله المسيحيين أقوى من كل آلهة الإمبراطورية الرومانية, لذلك ومن اجل خير الإمبراطورية الرومانية بدل ان يحاربه قرر الاستعانة به. فأوقف العداء للمسيحية. وهكذا استراحت الكنيسة نحو أربعين عاما الى ان جاء (دقلديانوس) عام (284م) وقام بمحاولته الأخيرة اليائسة للقضاء على المسيحية التي كانت قد تقدمت كثيرا وانتشرت حتى ان الامبراطورة (بريسكا) زوجة (دقلديانوس) وابنته (فاليريا) صارتا مسيحيتين.

بعد تسع سنوات من ارتقائه العرش انقلب (دقلديانوس) على الكنيسة  أي سنة (303م) وبدأت اقسى فترة اضطهاد عرفتها الكنيسة حيث قرر (دقلديانوس) سحق الكنيسة. فأمر بإحراق الكتب المقدسة وطرد المسيحيين من وظائفهم وكانت الاعدامات بالجملة وكانت بعض الكنائس تغلق على من فيها وتحرق. وقيل انه في مصر تعب الجلادون من قطع رؤوس المسيحيين.

وكسابقيه الذين رفسوا (مناخس) وفشلوا أصابه المرض فجأة فقرر سنة (305م) الاعتزال, ولكن الاضطهاد استمر بعده وان كان بوتيرة اخف الى ان اعتلى العرش الامبراطور (قسطنطين) فكتب مرسوم ميلان الذي فيه يأمر بالتسامح الديني في عام (313م) لتستريح الكنيسة من جديد.

ان توقف الاضطهاد على المسيحيين يشير الى امرين:

1- العالم الوثني يبدوا انه اكتفى من دماء المسيحيين التي سالت, ومن اعداد المقتولين من الناس الصالحين والشجعان.

2-ان ازدياد الاضطهاد يزيد تلقائيا من عدد الذين يؤمنون بالمسيح, وهذا مرده الى شجاعة الذين دفعوا حياتهم ثمنا لإيمانهم. هذه الشجاعة بالحقيقة هي التي دفعت الوثنيين ليبحثوا في كتب المسيحيين عن حقيقة ايمانهم المسيحي, وإذ بهم يجدون فيها احتياجهم.

ما اريد ان أقوله اخيراً, إن المسيحيين الذين يعيشون اليوم في ظل أنظمة تمارس ضدهم الضغوط والاضطهادات بسبب ايمانهم يمكنهم ان يسترشدوا بتاريخ الاضطهادات التي واجهتها الكنيسة الأولى فيتمسكوا بإيمانهم, وانتمائهم لشخص المسيح, حتى لو كلفهم ذلك حياتهم.

(لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ.) رومية14.

 وان كان موتنا هو التربة التي تنموا فيها كنيسة المسيح, فليتمجد المسيح في موتنا.

ق. نبيل سمعان يعقوب