شخصيات تاريخية
تسجيل

الكونت نيكولاس فون زنزندورف (1700- 1760)  

امتلأت صفحات تاريخ الكنيسة من أبطال أحبّوا يسوع كثيرًا وشَعروا بحاجة ماسّة لحضوره في حياتهم. ينتمي الكونت زنزندورف الى هذه القافلة من القدّيسين. وقد كَوَّنت شركته مع الله العنصرَ الأساسي لحياتِه المسيحيّة، فكان حضورُه المبارَك ظاهرًا في كلّ أعماله. وجاء اعترافه الشَّهير معبِّراً عن شعار حياته، "تمتلكني رغبة قويّة، إنَّها يسوع، وحده يسوع."

تميّزت شخصيته بتنوّع فريد جعل منه إنساناً مُتكاملاً. كان في وقت واحد شاعِرًا ولاهوتيًّا وراعيًا ومرسَلاً وقانونيًّا. أَلْهَمَ الكِبار وأثَّر في الصِّغار وكَرَّس كلّ قدراته لهدف واحد أن يَنشُرَ في البَشَر مَعرفة المسيح مخلِّصِه.

وُلدَ الكونت نيكولاس لودفيغ فون زنزندورف في ساكسوني شرقي ألمانيا عام 1700. ترعرَعَ وسط عائلة نَبيلة من أرقى عائلات أوروبا. توفّيَ والدُه بعد ستّة أسابيع من ولادته. وعاش بعد زواج أمّه مع جدّته التقيّة الّتي أمضت معه أوقاتًا طويلةً في الصّلاة ودراسة الكتاب المقدس. انفطر قلب الصّبي عندما أُلحق في مدرسة داخليّة ورأى الإزدراء

.

بالمسيحيّة الحقيقيّة. واجهَ زنزندورف صراعًا قويًّا في صِغره بينَ رغبته في درس الكلمة والإنطلاق للخدمة، وبين واجبه كَكونت في إدارة ما وَرثهُ عن والده.

عرف زنزندورف وفي وقتٍ باكرٍ من حياته، سِرَّ عالم الصّلاة وقوّة الشركة الحقيقيّة مع الله، فأصبح رجل صلاة بكل ما في الكلمة من معنى. أثّر هذا العنصر كثيرًا في إعادة إحياء الكنيسة المورافيّة بعد ذلك. في عام 1715، وكان له من العمر ستّة عشر عامًا، سعى جاهدًا لتأسيس أكثر من سبع مجموعات صلاة في المدرسة التي يتعلّم فيها. وهكذا شجّع أربعة من رفاقه لإقامة نهضة روحيّة. أنشأوا حلَقة صلاة، وتطوَّرَت مع الوقت حتّى باتَت جمعيّة أُطلِق عليها اسم "منظّمة حبّة الخردَل". كانت غاية أولئكَ الشّبان نشر الإنجيل من خلال مواقعهم السّياسيّة والإجتماعيّة. وأعلنوا التزامَهم بخدمة المسيح والإيمان به وحده. امتلكَ كلّ فرد من أعضاء الجمعيّة خاتماً نُقِشَ عليه: "نَحيا لا لأنفسنا". لُخّصَت أهداف الجمعيّة بثلاثة نقاط: الولاء للمسيح، واللّطف مع الجميع، وإعلان الإنجيل للخليقة كلّها. ومع مرور الوقت توسَّعَت أعمال الجمعيّة وانضمَّ الكثير من حكّام وساسة أوروبا إليها، ومنهم ملك الدّنمارك ونائبٌ بريطانيًّ.

يأتي مَثَل حبّة الخردَل من الكتاب المقدَّس عندما شبَّهَ يسوع ملكوت الله بحبّة الخردل وهي أصغَر البذور على الأرض، ولكن متى زُرِعت "تَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا." (مرقس 32:4). ووضعَ يسوع أيضًا تحدّيًا أمام تلاميذه حينَ قال: "لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ." (متى 20:17).  

بالإضافة الى الصلاة، ظهر شغفه بالمسيح في محبّته للنّفوس الهالكة. فتوّجه لتبشير العالم مع مجموعة من القدّيسين المحصورين بمحبّة يسوع والمجهّزين بقوّة الصلاة. استطاع أن يُلهِب فيهم الحماس للعمل الإرسالي بالتطلّع إلى صليب الجلجثة وحدث القيامة المجيد، قائلا، "هذا هو الحمل المنتصر، فلنتّبعه." أظهر في مثال حياته كما في عِظاته أنِّ الدّين هوَ سلوك وأسلوب حَياة وليس فقط مجموعة من العقائد الإيمانيّة، وأنّ المسيحيّ هو إنسان يؤمن بالمسيح وليس بالمسيحيّة كدين وطائفة. علّم عن الولادة الثانية مستندًا الى حديث يسوع مع نيقوديموس في انجيل يوحنا الاصحاح الثالث. وهكذا ظَهر تأثير التَّقَويَّة (pietism التي نَشأ في ربوعها منذ صغره، في كتاباته وتعاليمه وسلوكه.

لم تنتهِ خدمة الكونت زنزندورف هنا، فقد ارتبط اسمه وثيقًا بالإخوة الموارفيّين مع بدايات القرن الثامن عشر. استقبَلَ اللاجئين الهاربين من موطنهم في بوهيميا ومورافيا بسبب المضايقات والإضطهاد العنيف في سبيل إيمانهم بالمسيح. رَحَّبَ بهم في بلدة صغيرة في ساكسوني، ووفَّرَ لهم ملجأً وطعامًا. وأصبحَت هذه البلدة مَقرًّا للمورافيّين وقد عُرِفَت باسم Hernhut، ومعناها "عناية الله". وما لبث أن رحلَ زنزندورف مع عائلته من قصره وانتقلَ للعَيش وسط المورافيين الذين وجدوا فيه المحامي والرئيس والمنظِّم. فكانَ يَخدمهم ويُقيم حلقات صلاة ودرس كلمة الله. وأرسل خدّامًا للتبشير في جزر الهند الغربيّة. وبعدها أُرسلَ الكثيرون للخدمة في مناطق مختلفة من العالَم لتَتميم المأموريّة العُظمى، منها افريقيا وأميركا الجنوبيّة وآسيا. وهناك واجهَتهم اضطهادات وعداوات وأمراض مُميتة، إلا أنَّ الله لَم يتركهم واستطاعوا نشر الإنجيل ومحبّة الله ونعمته حَيثما ذهبوا.

من أعمال زنزندورف الهامّة التي قام بها أيضًا كان تجديد الشركة الرسوليّة. اجتهد لتأسيس مجتمع من القدّيسين حيث يكون "كلّ شيء مشتركًا" كما في كنيسة أعمال الرسل. يعيش المؤمنون فيه بمحبّة، يؤازرون بعضهم، يصلون، ويهتمّون بالغير. تحقّقت رغبته هذه في البلدة الصغيرة الّتي أسّسها. كان محور الشركة في هذا المجتمع الجديد هو الحاجات والاهتمامات المشتركة، بالإضافة الى الوحدة والأخوّة المسيحيّة التي شدّد عليها كثيرا زنزندورف في تعاليمه. في عام 1738 زار جون وسلي هذا المكان البهيج وتأثّر به فدوّن في جريدته: "كنت أحبّ لو أمضي بقيّة حياتي هنا. متى تملأ المسيحيّة الأرض كما يغطّي الماء البحر؟" يجب أن ننوّه هنا أنَّ وسلي اهتدى الى الايمان الكتابيّ والولادة الجديدة بواسطة المورافيّين بينما كان عائدًا يائسًا من جَولة تبشيريّه في الولايات المتحدة.    

فعُرِف زينزندورف تاريخيًّا بمؤسِّس وقائد الكنيسة المورافيّة المتجدِّدة. كما وأنَّه كتَب ولحَّنَ أكثر من ألفَي ترنيمة. وأعطى الكونت زيندورف أهميّة كبرى للنساء ضمن الجماعة المسيحيّة إذ قد احترم شخصهنّ وموقعهنّ وإيمانهنّ ودورهنّ. وكان في ذلك سابقًا لعصره.

لم تَكُن حياته خالية من الأخطاء لكن من يَدرس سيرته لا يقدر إلاّ أن يتأثّر بتلك النّيران المقدسة التي اشتعلت فيه نتيجة حبّه للرَّب. كان مُستعدًّا أن يَستَشْهد في سبيل إيمانه. من كتاباته، "لا توجد سعادة أكثر من العيش بالقرب من يسوع، ولا يوجد شَقاء أكثر من افتقاد حضوره وبركاته، ولا توجد مصيبة أكبر من إغضابه، ولا توجد حياة إلاّ فيه."

إنّ سبب نجاح زنزندورف هو ولاؤه الكامل ومحبّته الشديدة للمسيح يسوع. هذا ما يجب أن يفعله المسيحيّون في هذه الأيام. الكنيسة المسيحيّة المعاصرة ضعيفة روحيًّا لأنها تَلتَهي بأمور العالم والمادّة أكثر من الصلاة، ولأنها غير أَمِينة لتَعاليم المسيح، ولأنّها انغمست في الأنانيّة مُتجاهِلة الّذين أَحبَّهم الله وأرسل ابنه لِيَفديهم مِن الهلاك الأبديّ. يحتاج العالم المسيحيّ إلى تَوبة حَقيقيّة. وتحتاج الكنيسة أيضًا عمالقة إيمان أمثال الكونت نيكولاس زنزندورف.

منقول عن رسالة الكلمة, العدد: 26،  تشرين الثّاني 2011, بقلم:كارن عطيّة