جون كالفن  

وُلِدَ "جون كالفن" في "نويون" في فرنسا، وإذ كان والده (كاتباً عدلاً) يعمل لصالح أسقف المدينة، استحصل له على رتبتين كنسيّتين، طامحاً إلى أن يصير ابنه كاهناً في الكنيسة الكاثوليكيّة. لكن، عندما اختلف الأب مع الأسقف، أرسل ابنه إلى جامعة باريس، حيث تفوّق في التّحصيل العلميّ، ودخل بعدها مدرسة الحقوق في "أورليان".  وقد عُرِفَ "كالفن" بمحبّتهِ الدّراسة والعلم منذ البداية.  كما أنّه برع في العبارة الأدبيّة، وكان أوّل مؤلَّف له كتاباً عن "سنيكا" (Senica)، الخطيب والسّياسي الرّوماني ( 4 ق م- 65 م)، وقيل عن هذا المؤلَّف إنّه شهادة مُقنِعة لميوله البروتستانتيّة الّتي نمّاها في باريس في أثناء دراسته. 

بعد هذا الكتاب، ركّز "كالفن" جهده في الدّراسات الكتابيّة، وعندما انتُخِبَ صديقه "نيقولاس كوب" رئيساً لجامعة باريس، ساعده على كتابة خطابه الأوّل الّذي انتقدا فيه الممارسات الكنسيّة الخاطئة، وطالبا بالإصلاح الرّوحي كما كان يُنادي "مارتن لوثر".  وعندما افتُضِحَ أمرُ قناعاتِهِ المُصلِحَة، شُنّت حملة ضدّه، فهرب وصديقه "كوب" من باريس، وجالا في فرنسا وسويسرا وإيطاليا لمدّة ثلاث سنوات.  خلال هذه الفترة تخلّى عن رتبه الكنسيّة، وصارت معتقداتُه تتبلوَر أكثر فأكثر حتّى آلت إلى تجديده الرّوحيّ وتكريسه للرّب.  لقد كان "كالفن" في طبيعته خجولاً وصارماً، وميّالاً إلى أن يحيا حياة عالِمٍ، إلاّ أنّ ظروفاً عديدة حملته على التّجوال والنّضال من أجلِ الإيمانِ البروتستانتيّ. 

وعلى الرّغم من صغر سنِّهِ، ألّفَ "كالفن" في العام 1534، أوّل كتاب دينيّ له بعنوان Psychopannicia، هاجم فيه عقيدة رقاد النّفس بعد الموت.  ثمّ كتب مقدّمة للتّرجمة الفرنسيّة للكتاب المقدّس

.

الّذي كان ممنوعاً عن العامّة. وفي العام 1536، وعندما كان عمره 27 سنة، وَضَع، في "بازل" في سويسرا، كتاباً في اللاّهوت النّظاميّ عنوانه: "مبادئ الإيمان المسيحيّ" Institutes of Christian Religion، افتتحه برسالة موجّهة إلى الملك الفرنسي "فرنسيس الأوّل" يُدافِع فيه عن البروتستانت، ويدحض آراء الّذين كانوا يُشوّهون سمعتهم.  فيما بعد، صار هذا الكتاب المقتدِر بالتّفسير، المقياس للبروتستانتيّة المُصلَحة، وقد تُرجم إلى مُعظم اللّغات الحيّة المعروفة في أيّامنا. 

دعاهُ صديقه "غيّوم فاريل" إلى المجيء إلى مدينة "جنيف" في سويسرا، فمكث فيها قليلاً، قبل نَفيِه إلى "ستراسبورغ"، حيث عاش أفضل سني حياته على الرّغم من فقره.  هناك تزوّج من أرملة صديقه الخادم الأنّاببتست "أيدليت دو بور"Idelette De Bure،الّتي وَلَدت له ابناً وحيداً عاش بضعة أيّام ثمّ مات.  وفي العام 1549، ماتت زوجته ولم يتزوّج ثانية على الرّغم من حاجته إلى مَنْ يهتمّ به، إذ كان مُهمِلاً لصحّته بسبب كثرة أعماله ونشاطه في الخدمة والرّعاية والتّأليف والقيادة. 

وفي "ستراسبورغ"، وضع كتاب ترنيم وعبادة إنجيليّ، وكتب تفسيراً لرسالة رومية، وأسّس كنيسة فرنسيّة بحسب العهد الجديد، وهكذا ذاع صيته كلاهوتيٍّ لامع.  أمّا نظرته إلى الإنسان فكانت نظرة واقعيّة تنسجم مع كلمة الله؛ فالإنسان، بالنسبة إليه، كان فاسداً بالكلّيّة في أخلاقه وقدراته الذّهنيّة.  كما آمن "كالفن" بأنّه من دون إعلان سماويّ لا يستطيع الإنسان أن يُدرِكَ الحقّ الإلهيّ، وأنّ الفضائل تصير رذائل من دون نعمة الله.  أمّا مُجمل تفكير "كالفن" فيتمحور حول سيادة الله المطلقة، واختياره مَنْ يشاء للخلاص وتقريره مصائر البشر.  فالمختارون في العهد القديم هم اليهود، أمّا في العهد الجديد، فهناك إسرائيل جديدة، هي الكنيسة المسيحيّة.  أمّا الكنيسة فلا يعرفها البشر إلاّ إذا اختبروا الإيمان الصّحيح وعاشوا حياة صالحة ومارسوا الفرائض كما يجب. 

في 13 أيلول 1541، عاد "كالفن" و"فاريل" إلى "جنيف" ليُنقِذا الإيمان المُصلَح فيها، فوجدا المدينة في شرّ أخلاقيّ عظيم.  فابتدأ "كالفن" بالإصلاح للحال، حيث عدّل قوانين المدينة، ووضع النّظم الإداريّة للكنيسة، وراجع كتاب العبادة والتّرانيم الّذي كان قد وضعه في "ستراسبورغ".  وفي العام 1559، أقنع الشّعب بأنّ الأكاديميّة الموجودة لا بدّ من أن تتحوّل إلى جامعة تُخرّج الشّباب للعمل في الخدمة العامّة.  أمّا هدفه فكان تحويل مدينة "جنيف" إلى "مدينة مقدّسة" تتوافق مع مشيئة الله.  كلّ هذا رفع من مستوى الحياة في "جنيف"، وجعل منها إحدى أقوى مُدن القرن السّادس عشر.  وبالفعل، صارت مدينة "جنيف"، في أيّام "كالفن"، مجتمعاً فاضلاً يعيش بحسب أخلاقيّات الكتاب المقدّس، يُمنع فيه الرّقص، والفحش، والعربدة، ولعب الورق، والمقامرة، والسّكر، وحضور المسرح الفاسد، وأمور أخرى رأى "كالفن" أنّها لا تليق بالمسيحيّين.  كما وصارت ملاذاً للمُضطهدين من كافّة مدن فرنسا، وهولندا، وإنكلترا، وسكوتلاندا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وهنغاريا، وبولندا، وغيرها من بلدان أوروبا.  وغالباً ما كان هؤلاء النّاس يعودون إلى بلدانهم كمُرسَلين، يحملون رسالة الإنجيل كما سمعوها من منبر "كالفن" في "جنيف".  

كان أثر "كالفن" في تطوير اللّغة الفرنسيّة والمناهج الدراسيّة والتّفكير والعلوم والسّياسة والتّاريخ كبيراً جدّاً، ممّا جعل منه الرّجل الأكثر تأثيراً، بين معاصريه، في تطوير ثقافة أوروبا والغرب وحضارتهما.  أمّا الأثر الأكبر ل"كالفن" فكان في الدّراسات الكتابيّة واللاهوت، حيث كتب تفسيراً لثلاثة وعشرين سفراً من العهد القديم، ولكافّة أسفار العهد الجديد، ما عدا سفر الرّؤيا.  كما كان غزير المواعظ والكتابات المتفرّقة في موضوعات كانت تهمُّ معاصريه.  وما زالت كتُب "كالفن" وتفاسيره تُطبع وتُنشر إلى أيّامنا هذه، ويستفيد منها الملايين من المؤمنين بالمسيح والمُتمسّكين بتعاليم الإنجيل المقدّس في الكنائس المشيخيّة والجمهوريّة والمعمدانيّة. 

ينتقد الكثيرون "جون كالفن" مُحاولين إظهاره رجلاً صعب المراس، وغير مُحبٍّ للحياة، وقاسياً في أحكامه.  إلاّ أنّ مَنْ يدرس حياته ورسائله بدقّة، يجده إنساناً مسيحيّاً مُحبّاً الآخرين، ومُكرَّساً وأميناً في حياته الرّوحيّة، وخادماً نشيطاً، يعمل بجدٍّ لقضيّة المسيح ولانتشار الإنجيل ولخير الإنسان العام.  لقد عاش "كالفن" ما آمن به، ولم يُعِر حياته الشخصيّة كثيراً من الاهتمام على الرّغم من قروح معدته، وبقي يعمل، بشكل مُكثّف، بلا كلل لمجد من أحبّه ومات عنه، إلى يوم وفاته وانتقاله إلى الأمجاد، في 27 أيار 1564.

منقول عن, مجلة رسالة الكلمة,العدد: 32،  أيّار 2013.