خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ
(ولما اتو الى موضع الجمجمة وقبل صلبه أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ). (وَأَعْطَوْهُ خَمْراً مَمْزُوجَةً بِمُرٍّ لِيَشْرَبَ فَلَمْ يَقْبَلْ). فأمسكوه بعنفٍ. كان يتلوى بين ايديهم كطفل لا يقاوم. حبسَ الآهات بين شفتيه, وإذ جردوه من ثيابه التي احتست الدماء من جسده, أي ثوبه المطرّز المفتوح من الأمام, مع ما تحته, الجبّة والقميص, انفتحت شفتاه وصرخ: (أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ). (عِنْدَ كُلِّ أَعْدَائِي صِرْتُ عَاراً وَعِنْدَ جِيرَانِي بِالْكُلِّيَّةِ وَرُعْباً لِمَعَارِفِي. الَّذِينَ رَأُونِي خَارِجاً هَرَبُوا عَنِّي. نُسِيتُ مِنَ الْقَلْبِ مِثْلَ الْمَيْتِ. صِرْتُ مِثْلَ إِنَاءٍ مُتْلَفٍ).
وهكذا فعلوا مع اللصين الذين كانا معه, سقوهما خمراً ممزوجةً بمرّ فشربا. وإذ أمسكوهما بعنفٍ, امتلأ المكان منهما صراخاً وتجديفاً. تصارعا مع الجند فأوسعوهما ضرباً ثمّ طرحوهما أرضاً كلٌّ فوق صليبه. ربطوا الأيادي بالحبال, ثمّ سمّروها بالمسامير. وهكذا فعلوا بالأقدام التي سمّروها فوق خشبة ناتئة. ووسط سخرية الجنود اوقفوهما معلقين بين الأرض والسماء.
التفَت الجنود إلى المعلّم. و(كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ). طرحوه أرضاً فوق صليب بَارَابَاس. قيّدوه. سمّروه. ورفعوه بين اللصّين ليتمّ القول: (وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ). (وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ (التاسعة صباحاً) فَصَلَبُوهُ). ثمّ علّقوا علته, (مَلِكُ الْيَهُودِ). (فَقَرَأَ هَذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ يَسُوعُ كَانَ قَرِيباً مِنَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مَكْتُوباً بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَاللَّاتِينِيَّةِ). أمّا هو فلم ينبس ببنت شفة ليتم المكتوب, (فَعَلَ الرَّبُّ مَا قَصَدَ. تَمَّمَ قَوْلَهُ الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ مُنْذُ أَيَّامِ الْقِدَمِ).
كان عرقه يتصبب على جبينه مختلطاً بالدّم, منساباً الى عينيه فيحرقهما. ثمّ إلى أنفه وفمه فيدغدغهما. وإذ اراد أن يمسحهما امسك المسمار يديه. ارتجف جسده. عضّ على شفتيه. وإذ اراد ان يصرخ, أمسك ثانية المسمار يديه, فنزّ الجرح الماً ودماً.
كانت مريم امّ المعلّم بين الجموع, تسير مستندة على كتف يوحنا. تشاهد عاره وأحزانه, عاجزة عن عونه في ضيقه.
رأت ابنها يتهاوى تحت حمل الصليب, فمدت يدها في الهواء شوقاً لتسند رأسه الجريح. وإذ سقط تحته صرخت, وسقطت معه, فغاص قلبها في أعماقها.
واذ أوثِق اللصّان كلّ الى صليبه امتلكها القلق, وتساءلت في عذابٍ: أيسمّرون اليد التي وهبت للموتى الحياة. وقبل ان تنزل المطرقة على يده ترجت كالآخرين ان يُظهر قدرته ويخلص نفسه من اعدائه.
وإذ هوى الجندي على معصمه بالمطرقة, تمزقت أحشاؤها ولم تعد ركبتاها قادرتين على حملها, فهوت بين يدي يوحنا الذي خنقته دموعه وآهاته, وتحشرجت الكلمات في فمه.
ما أسرعهم في انجاز المهمة. بلمح البصر ثبتوا يديه وقدميه بالمسامير, ورفعوه غير عابئين بمشاعره. تعاملوا معه كدودة لا إنسان.
رفع المعلّم بجهد رأسه, وحرك فمه بتثاقل. لم يستمطر على الجنود اللعنات, ولا استنزل على الكهنة والرؤساء النقمات. لكنه نطق بكلمات لم يُسمع قبلها على صليب: (يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ). ملتمساً لهم العذر في جهالتهم واثمهم.
(ثُمَّ إِنَّ الْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ) اشتهوا كالذئاب ثيابه الملوثة بالدماء فاقتسموها. (أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ نَشُقُّهُ بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ. لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً). أمّا حذاؤه فما وجدوه لأنه لم يكن ممكنًا أن يملك ما قد منع تلاميذه منه. ثمّ اخذوا علّته كما كتبت في دار الولاية (يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ) ووضعوها فوق رأسه. (فَقَرَأَ هَذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ يَسُوعُ كَانَ قَرِيباً مِنَ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مَكْتُوباً بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَاللَّاتِينِيَّةِ). (ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ).
سيّدي, سمعنا أحدهم يقول: (لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِبَ مِنْ ضُعْفٍ لَكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ اللهِ). راقبناك, فتيقّنا ذلك. وإذ خشينا نزولك, أمرنا الحراس أن يجلسوا هناك.
وبينما المعلّم مصلوبٌ (كَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ. وَكَذَلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ الْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ قَالُوا: خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا. إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ). (وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ). يا للمفارقة, عندما يصنع المعجزات يعظمونه, وعندما يُصلب ظلماً يستهزئون به.
كم هو مؤلم ان يسمع الْبَارُّ الذي اعتاد سماع صوت استغاثات الناس, أو صوت الاب القدوس, كل هذه الشتائم.
ولأن الوليمة كبيرة اشترك فيها اللصان وعيرّا المعلّم بلا حدود. واحدٌ منهما جدّف عليه قائلاً: (إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا). أمّا هو فلم يقل في حقهما كلمة, مع انهما لم يتركا في حقه كلمة.
كان (تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ) ينتظر تعزيةً, فجاءت من لص راقبه لوقت قصير. وإذ ادرك اللص مالم يدركه رئيس الكهنة طيلة ثلاث سنوات ونصف صرخ للمعلّم قائلاً: (اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ). (لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ). فكانت صلاته (مِيَاهٌ بَارِدَةٌ لِنَفْسٍ عَطْشَانَةٍ).
كان قائد المئة مشغولا بشخص المعلًم وفي قلبه كان يرجو ان ينزل عن الصليب في أيّة لحظة. واذ سَمع كلمات اللّص وصلاته انبهر, وانفتح ذهنه على عظمة المصلوب. وبالكاد امسك نفسه عن ترديد عبارة ذاك اللص. أمّا أولئك العسكر الجالسين عند الصليب يقترعون على ثياب المعلّم فأوقفوا شجارهم هيبة واحتراماً.
أدرك قائد المئة أنّه يمكن للناس أن يَضربوا المعلّم, وأن يجلدوه ويلكموه ويصلبوه, بل أن يجردوه من ثيابه ويقتسموها. أما صفته كملكٍ (يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ), فلا ينتزعها أحد منه.
في غمرة آلامه. جال المعلّم ببصره في الذين حوله وهو بالكاد يرى, فوقعت عيناه على مريم المستندة على ذراع تلميذه يوحنا. نظر الى وجهها الحزين وقال: (يَا امْرَأَةُ هُوَذَا ابْنُكِ). ثمّ التفت لتلميذه المحبط وقال: (هُوَذَا أُمُّكَ. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ) حاجباً عنها ما تبقّى من آلام المعلّم. وإذ أوصلها إلى البيت عاد ثانية إلى المكان ليلتقي نيقوديموس, ويوسف الذي من الرامة.
واذ اطمئن رؤساء الكهنة أن المعلّم مائت لامحالة, غادروا المكان إلى الهيكل, لأنّ موعد تقديم ذبيحة الفصح قد اقترب. انهم للتذكار, في يوم واحد وعلى غير المعتاد, سيقدمون خروفي فصح, بدل واحد.
منقول عن كتاب مخلص العالم, لمؤلفه, القس, نبيل سمعان يعقوب