الهُويّة الفرديّة (الذاتيّة)
*مقدمة:
يَستخدم الناس في بلادِنا كلمة هَوِيَّة للدلالة على البطاقة الشخصيّة فيُقال: بطاقة الهَوِيَّة, وهذا لفظٌ غيرُ صائبٍ رُغم شيوعه. والأصح ان يقال: بطاقةُ الهُوِيَّة. وليس الهَويّة التي تعني في اللغة العربية، البئر البعيدة القَعْر, أمّا مصطلح الهُوِيَّة في اللغة العربية, فهو اسمٌ مُصاغٌ من الضمير المنفصل (هُوَ), لذلك تُلفظ هُوِيَّة, وهُوِيَّةُ الإنسانِ, حَقيقَتُهُ الـمُطْلَقَةُ وصِفَاتُهُ الجَوْهَرِيَّةُ. أمّا بطاقة الهُويّة, فهي البطاقةُ الشخصيَّةُ, وتحملُ اسمَ الشَّخصِ وتاريخَ ميلادهِ وعَمَلَهُ وجِنسيَّتَهُ, وهي تدل على الأفراد داخل مجتمعهم، وتمنحهم صفةً قانونية للتصرّف بحُرية مطلقة تحفظها لهم الأحكام الدستورية المحلية، والدولية. وللهُويّة أيضاً مفهوم يدلّ على العمومية, حيث يشير إلى فئة أو جماعة لديهم ميزات أساسية مشتركة, تميزهم عن مجموعات أخرى من الناس, وهذه الفئة تتبع لدولة، أو منطقة، أو جهة معينة. ولأن الهُويّة مرتبطة بمتحولات فهي تعتبر غير ثابته, أي تتحوّل تبعاً لتحوّل الواقع.
*تعريف الهُويّة الفرديّة: هي إدراكُ الفرد لذاتهِ بأنّه كائن مُتميّز عن غيره بما يحمله من صفات طبيعية, او مكتسبة, يشعر من خلالها أنّه مقبول ومعترف به كما هو من طرف الآخرين, أو من الثقافة التي ينتمي إليها.
عندما يَبتدئ الفرد يدرك انه مُختلف عن الآخَرين الذين هم حوله, يتحول من مرحلة التَطابُق والتَماثُل مع الآخَرين إلى مرحلة التَفرُّد والاختلاف عن الآخَرين, فتتشكل لديه الهُويّة الفرديّة, وهذه لحظة مهمّة، لأنّها خطوة فيها يتخلى عن مُكوّنات الهُويّة الـمُكتَسَبة مِنَ الـمُجتَمع, ليستبدلها بمُكوّنات ذات طابع شخصي.
*عناصر الهُويّة الفرديّة:
- اللغة: تُعتبر اللغة الوسيلة التي يتفاعل بها الأفراد فيما بينهم, وهي حلقة الوصل بين الأجيال المختلفة لنقل فكرهم الثقافي وتجاربهم الخاصة.
- الانتماء الديني: يُعتبر الدين رابطاً بين افراد الجماعة المؤمنة ذات الايمان الواحد, ويهدف الى تنظيم الحياة الشخصية والاجتماعية للأفراد من خلال قيم معينة يتبناها الفرد ضمن الجماعة الواحدة.
- الانتماء السياسي: يُشكل الجانب السياسي جزءاً هاما من الحياة الاجتماعية, وانتماء الفرد أو الجماعة لجهة معينة يعطي مدلول الولاء لقيمها دون جماعة أخرى, ومن خلال الانتماء السياسي يستطيع الفرد تحقيق المكانة, والتميز الاجتماعي, واكتساب الشهرة, والحصول على التقدير والاحترام من قبل أفراد جماعته.
*تعليق الهُويَّة الفرديّة:
أي عدم امتلاك الفرد لهُويّته خلال فترة زمنية معينة بسبب مجموعة من العوامل التي تؤثّر عليه, وتُقسم إلى نوعين هما:
العوامل الداخلية: وهي التي تَنتج عن تأثير نفسي, أو مرضي يَفقد الإنسان فيه القدرة في التعرف على هُويتهِ. وعادةً تحدث هذه المؤثرات نتيجةً للإصابة بالأمراض أو الشيخوخة التي يرافقها أحياناً مرض النسيان شبه الدائم (الزهايمر).
العوامل الخارجية: هي التي تَنتج عن تأثيرٍ خارجي، حيث يُرغم فيه الإنسان على تركِ هُويتهِ، وترتبط عادةً بعوامل سياسية، مثل: فقدان اللاجئين لوثائقهم الشخصية، وبالتالي يفقدون بطاقات تعريف الهُويَّة الخاصة بهم.
*تفكك الهُويَّة الفرديّة:
هو مفهوم يرتبط بالحالات النفسية المرضية عند الأفراد بشكل مباشر, إذ يفقد فيه الإنسان معرفته بذاته عندها لا يُظهر أيّ اهتمامٍ بالتعرف على نفسهِ وهُويتهِ، ليصبح مجرّد كائن حي لا يمتلك أي دور في الحياة المحيطة بهِ. وينتشر تفكك الهُويّة بشكل مميز عند الأشخاص الذين يعيشون خارج بيئةٍ عائليةٍ سليمة، ويجدون أنفسهم بلا بيت، أو مأوى منذ ولادتهم، ويعيشون في ذات الظروف حتى وفاتهم.
*مراحل تشكل الهُويّة الفرديّة:
تُعتبر نظرية النمو النفسي الجنسي لرائدها سيجموند فرويد تطوراً كبيرا في مسار علم النفس حيث تبنت مصطلحات جديدة كان لها أثرٌ بارزٌ في تفسير ظاهرة النمو عند الفرد, ومنها, الشعور، اللاشعور، الليبيدو، الأنا، الأنا الأعلى, و الهُوَ. كما مهدت لظهور نظريات أخرى جديدة منها نظرية النمو النفسي الاجتماعي لإريك هامبرغر إريكسون (Erick.H.Erickson), الذي ركز على نمو الأنا مبرزاً أهميّة العوامل الاجتماعية، والنفسية, والبيولوجية في عملية النمو, وتكوين الشخصيّة, أي الهُويّة.
يرى إريكسون أن نمو الفرد يمر بثمانية مراحل عمريّة كلُّ واحدة منها مبنية على التي تسبقها, وتتميز بتحديات خاصة بها (نفسية, اجتماعية), حيث تحاول الأنا حلها وتجاوزها كي يسير النمو بوتيرة طبيعية وعادية, وعند فشل الأنا في حل الأزمات المختلفة, أي إن لم يتخطاها الانسان ويسيطر عليها فسوف تظهر كمشكلات في مستقبله, وقد تَعرّضَ لها بالتفصيل في كتابه "الطفولة و المجتمع", وهذه المراحل هي:
المرحلة الأولى: هذه المرحلة توازي المرحلة الفمّيّة في نظر فرويد, وتَظهر خلال العام الأول عند الطفل, وفيها ينشأ صراع داخل الطفل ما بين إحساسه بالثقة, او عدم الثقة في الاخرين، فالطفل الذي لديه ثقة داخلية، يرى العالم الاجتماعي حوله آمناً ومستقراً، والعكس صحيح.
فمثلاً عندما يبدأ الطفل بالبُكاء بسبب الجوع, وتستجيب له أمه اذ تقوم بإرضاعه, يتولد لديه إحساس بالثقة والأمان. أمّا ان لم تُلبِّ أمه حاجته فسيتولد لديه شعور من عدم الثقة بالآخرين, وأن عالمه ليس آمناً. وهنا دور الام ان تساعد ابنها لئلا ينتقل الى المرحلة العمرية التي تلي, ومعه ازمة عدم ثقة بمن هم حوله.
المرحلة الثانية: هذه المرحلة تمتد بين السنة الثانية إلى الثالثة من العمر، وفيها ينشأ صراع داخل الطفل ما بين الاستقلاليّة من جهة, والشعور بالخجل والشك من جهة اخرى. في هذه المرحلة يتعلّم الطفل مهام جديدة, مثل قضاء حاجتِه, والدخول إلى الحمّام كما يفعل الكبار, أو تناوُل الطعام بمُفرده, وإذا نجح الطفل في القيام ببعض المهام وحده، فإنّه سيُطوّر شعورًا بالاستقلاليّة والاعتماد على النفس، أمّا إذا فَشِل في ذلك, فسيتولّد لديه إحساس بالخَجَل والشك في قدراتِه. وبالتالي سيلازمه السؤال, هل استطيع ان افعل الأشياء وحدي ام احتاج للاتكال على الاخرين.
وهنا الدور المهم للأم او الاب في انتقال طفلهم الى مرحلة عمرية متقدمة دون ان يكون لديه أزمة, تتجلى في اتكاله على الاخرين في كل شيء.
المرحلة الثالثة: هذه المرحلة تمتد بين السنة الثالثة إلى السادسة من العمر. وتشير هذه المرحلة في نظر إريكسون إلى الصراع النفسي الاجتماعي الذي يعيشه الطفل في فترة ما قبل المدرسة كما تسمى أيضا هذه المرحلة فترة اللعب، وفيها ينشأ صراع داخل الطفل بين الجرأة في المبادرة وبين الشعور بالخوف.
في هذه المرحلة يُوسّع الطفل مَجال استقلاليّته، فيبادر إلى اللعب مع الأولاد الآخَرين، ويَبتدِئ بِتَحَمُّل مسؤوليّات صغيرة مثل إغلاق باب المنزل، أو شراء بعض الأغراض مِن مَتجَر قريب. وحين يشعر أنّ المبادرات التي يقوم بها لا تنال إعجاب الآخَرين بل يرفُضونها، يتكون لديه احساس بالخوف من القيام بأيّ مبادرات.
وهنا يكمُن دور الأهل في تشجيع الطفل على القيام بأيّة مُبادرات معقولة عن طريق تشجيعه أمام الآخَرين, لئلا يحمل معه ازمة الشعور بالخوف من القيام باي مبادرة, الى مرحلة عمريّة قادمة.
المرحلة الرابعة: هذه المرحلة تمتد بين السنة السادسة إلى الحادية عشرة من العمر, وهي تتزامن مع مرحلة الكمون لدى فرويد. وفيها ينشأ صراع بين الاجتهاد من جهة والشعور بالنقص من جهة أخرى. اكثر الناس تأثيراً في هذه المرحلة هم المعلمون والاقارب. في هذه المرحلة يبتدئ الطفل بالذهاب رسميًّا إلى المدرسة, فيُصبح مطلوبًا منه إتقان مهارات اجتماعيّة وتعليميّة معينة، فإذا نجح الطفل في بناء علاقات مع مُعلّميه, وزملائِه الطلبة, وابتدأ يُتقن الكتابة والقراءة، ينتابه شعور الثقة بالنفس. أمّا الطفل الذي لا يستطيع القيام بالمهارات المطلوبة فيُمكن أن يشعر بالنقص والضعف، وهذا يعني ازمة في مرحلة عمرية لاحقة.
المرحلة الخامسة: وهي من عمر اثني عشر عاما الى ثمانية عشر عاماً. وفيها ينشأ صراع بين تحقيق الهُويّة واضطراب الهُويّة. اكثر الناس تأثيراً في هذه المرحلة لتشكيل الهُويّة هم الأقران, اي الاصدقاء من نفس المرحلة العمرية.
تبدأ هذه المرحلة عادة مع بداية مرحلة البلوغ, وتنتهي عندما يأخذ الشخص موقفًا مُحدّدًا من العالم الذي يعيش فيه ليصنع لنفسِهِ هُويّةً مميّزةً. يُحاول الشخص في هذه المرحلة أن يُجيب عن أسئلة متنوعة مثل: مَن أنا؟ مَن أكون بالنسبة للمجتمع الذي أعيش فيه؟ ما المهنة, أو الوظيفة التي أرغب أن أحصل عليها عندما اصبح كبيراً ناضجاً؟ ما القِيَم والـمُعتَقدات التي تُنظِّم مَسيرتي وتقودُها؟ ما النمط العام للحياة الذي أفضّله على غيره؟ ما طبيعة الجماعة التي أُفضّل الانتماء إليها والتعامل معها؟ وبسبب تَغَيُّر ظروف الحياة وتعقيدها وكثرة المفشلات فيها, فإنّ هذه المرحلة قد تمتد إلى ما بعد الثامنة عشرة لتصل إلى مُنتصف العشرينات، أي بما يكفي لتشكيل الهُويّة.
في هذه المرحلة يَظهر ما يسميه إركسون "بأزمة الهُوية" التي تحدث عندما يخفق المراهق في تنمية هُويّة شخصية بسبب خبرات الطفولة السيئة, أو الظروف الاجتماعية المحيطة, مما يؤدي إلى فشل المراهق في اختيار عمل, أو مهنة, أو مواصلة التعليم.
المرحلة السادسة: وهي من عمر تسع عشرة سنة الى أربعين سنة. وفيها ينشأ صراع بين الحميميّة من جهة, لكونه يدرك انه محبوب, وبين العزلة من جهة أخرى, لكونه يدرك انه غير محبوب.
في هذه المرحلة يطمح الشباب إلى تكوين علاقات تقود إلى الزواج، ويحتاجون إلى أن يُبادلوا شخصًا من الجنس الآخَر مشاعر الحب والإخلاص. لذلك اكثر الناس تأثيراً في هذه المرحلة هم أصدقاء العمل.
إذا اجتاز الشخص المرحلة السابقة (الخامسة) دون تحقيق هُويّة واضحة لنفسِهِ، فسوف ينعزل ويميل إلى الوحدة, ومن الـمـُحتَمَل أن يجد صعوبة كبيرة في اختيار شريك الحياة, وتكوين علاقات حميمة يدمج فيها هُويّته مع أفراد آخرين.
المرحلة السابعة: وهي من عمر أربعين سنة الى خمسٍ وستين سنة. وفيها ينشأ صراع بين الإنتاجيّة من جهة, والركود من جهة اخرى. اكثر الناس تأثيراً في هذه المرحلة هم الأطفال.
يُعتبر الشخص منتجاً عندما يُبدع ويبتكر لصالح المنفعة العامة, وحين يبدأ في الاهتمام بالمصالح العامة للجيل التالي, والمجتمع الذي يمارس فيه حياته.
في هذه المرحلة يرغب الشخص الناضج ان يجد شخصاً آخر يحتاج اليه لكي يمارس دورا ابوياً رعوياً, ليخلق لنفسه إحساسا بالأبوّة المرتبط بالإنتاج والعطاء, احساس بانه قادر على عمل شيء ذي قيمة. وعندما يفشل في تنمية هذا الاحساس الابوي, فإنّه يعيش مرحلة الركود، ويبدأ في إمتاع ذاتِه كما لو كان هو الشخص الوحيد في الحياة.
المرحلة الثامنة: من عمر خمس وستون سنة حتى الوفاة. وهي فترة تعتريها الكثير من المطالب والتوقعات التي تعود إلى تدهور القوى الجسمية والصحية للشخص. وفيها ينشأ صراع بين السرور من جهة, واليأس من جهة أخرى.
في هذه المرحلة يَكون الإنسان قد وصل إلى مرحلة التقاعد، وربما فقد شريكه في الحياة, أو بعض الاصدقاء المقربين, مما يولد لديه حاجة ملحة إلى انشاء علاقات مع أفراد آخرين من نفس العمر. ومن هذا المنطلق يُغيّر الفرد من نظرته الى الحياة فبعدما كان مهتما بحاضره، يخطط له ويدرسه، يصبح في هذه المرحلة أكثر انشغالا بماضيه واسترجاع ذكرياته والحنين إليه, فينظر الى الوراء ليرى ما إذا كان قد عمل شيئًا مفيدًا لـمُجتمعِه وللناس الذين تعامل معهم طيلة حياتِه. فإن كان قد استغلّ الفرص التي أُتيحت له في حياتِه فإنّه سيشعر بالسرور والبهجة. أمّا إذا تذكّر أنّه لم يستغلّ الفرص التي سُنحت له ولم يَكُن مُؤثّرًا بشكل مفيد، فإنّه سوف يدخل في حالة من النَدَم, واليأس, كونه قد عاش حياة غير مثمرة.
*بعض الملاحظات المتعلقة بهذه المراحل العمرية:
1- إن تحقيق الهُويّة في كلّ مرحلة هو عامل مهم في تحقيق الهُويّة في المرحلة التي تليها.
2- إن الفشل او النجاح في كل مرحلة لا يؤثر فقط على المرحلة العمرية التي تلي, لكن ينسحب على كل المراحل العمرية حتى الوفاة.
3- إن الالتزام- أي اتّخاذ قرار ثابت وتَبَنّيه في أيّ مجال من مجالات الحياة- هو العامل الأهمّ في تحقيق الهُويّة الذاتيّة.
4- إن الأزمة هي فترة عدم اتّزان, وهي مهمة, لأن فيها تتطوّر الهُويّة, حيث يقوم الفرد باختيار بديل آخر متاح امامه في مُحاوَلةٍ منه للوصول إلى هُويّة ناضجة.
5- إن هذه المراحل قد أُزيلَ منها العامل الإيماني للأبوين او للشخص ذاتِهِ, هذا العامل الذي يدعو الله للمعونة في كل الازمات, ويدعوه أيضاً لتقويم كل الأخطاء المتراكمة نتيجة الخيارات الخاطئة.
عن كتاب (من يصنع هويتي) لمؤلفه, القس نبيل سمعان يعقوب