هنري دونان" مؤسّس الصّليب الأحمر, (1828 – 1915)
إنّه رجل أعمال سويسريّ وناشط اجتماعيّ ومؤسّس "جمعيّة الشّبيبة المسيحيّة" (YMCA)، وأوّل مَن فاز بجائزة "نوبل" للسّلام في العالم. خلال رحلة عمل قام بها في عام 1859 إلى إيطاليا، في فترة حرب "سولفرينو"، سجّل ذكرياته وخبراته في كتاب أسماه "ذكريات سولفرينو" والّذي مهّد إلى تأسيس الصّليب الأحمر عام 1863.
بداية حياته واهتدائه إلى المسيح
وُلِدَ "دونان" في جنيف - سويسرا من عائلة بروتستانتيّة تقيّة لها مركزها الاجتماعيّ المرموق. كان والده يهتمّ بالأيتام، ووالدته تعتني بالمرضى. في عمر السّابعة عشرة، بدأ "دونان" البحث عن أجوبة عن العديد من الأسئلة الرّوحيّة الّتي اجتاحت عقله، منها: كيف للإنسان أن يدرك الله؟ ما هو هدف الحياة؟ ماذا يعني أن تكون مؤمنًا مسيحيًّا؟ الأمر الّذي زاده شغفًا لسماع الوعظ والتّردّد المستمرّ إلى الكنيسة، حتّى أدرك حاجته العميقة
.إلى علاقة شخصيّة مع المسيح. وفي عمر الثّامنة عشرة، قرّر أن يسلك حياة الإيمان بالمسيح وخدمة مخلّصه. لم يخفِ "دونان" إيمانه بالمسيح، بل شاركه مع الآخرين لا سيّما الفقراء والمساجين الّذين كان يخدم وسطهم. وأقام، مع أصدقاء له، اجتماعات أسبوعيّة لدراسة الكتاب المقدّس والحوار حول حاجة الإنسان إلى معرفة الله. بعد فترة قصيرة اجتذبت هذه الاجتماعات أكثر من مئة شخص، حتّى أسّس "جمعيّة الشّبيبة المسيحيَّة" (YMCA)، الّتي انتشرت، بعد بضعة سنوات، في أنحاء أوروبا ثمّ في سائر أرجاء العالم.
نجاحه المهنيّ وصراعه الدّاخليّ في ترتيب الأولويّات
استطاع "دونان"، بقدرته التّنظيميّة وحنكته، النّجاح في إدارة شركة تجاريّة في شمال إفريقيا، وصار مُديرًا عامًّا لأحد فروعها في الجزائر وهو بعد في السّادسة والعشرين. بعد نجاحه المهنيّ ووجوده في بلد تكثر فيه التّحدّيات، نشأ عند "دونان" صراع داخليّ من ناحية ترتيب الأولويّات بين عمله والخدمة الرّوحيّة في (YMCA). فترك وظيفته وأسّس تجارته الخاصّة في الاستثمار العقاريّ، وهكذا صار صاحب ثروة كبيرة. إلاّ أنّ حياته الرّوحيّة بردت، وصرف كلّ طاقته على أعماله وزيادة ثروته حتّى صار معروفًا من الطّبقة الثّريّة والنّافذة آنذاك، وكان من بين أصدقائه الجنرال "بوفورت" قائد جيش الإمبراطور "نابوليون الثّالث".
معركة "سولفرينو" وولادة الصّليب الأحمر
عندما واجهت "دونان" أزمة ماليّة، صمّم على مقابلة الإمبراطور "نابليون الثّالث" لطلب المساعدة منه، وكان هذا الأخير يخوض حربًا في شمال إيطاليا في العام 1859. حين وصل "دونان" إلى بلدة "سولفرينو" الإيطاليّة، كانت هذه الأخيرة قد شهدت قبل يوم معركة ضارية بين الجيشين النّمساويّ والفرنسيّ وكانت حصيلتها أربعين ألف قتيل وجريح. فهال "دونان" منظر آلاف الجنود الجرحى من الجيشين، وقد تُركوا يعانون العذاب بسبب ندرة الخدمات الطّبيّة. فوجّه نداءً إلى السّكّان المحليّين، طالبًا إليهم مساعدته في رعاية الجرحى من كلا الجانبين. وعلى الرّغم من مقابلته الإمبراطور "نابليون الثّالث"، إلاّ أنّ "دونان" لم يعد مهتمًّا إلاّ في الحاجة الإنسانيّة الماسّة. وعند عودته إلى سويسرا، نشر كتابه "ذكريات سولفرينو" الّذي وجّه من خلاله نداءين مهمّين. الأوّل يدعو فيه إلى تشكيل جمعيّات إغاثة في وقت السّلم، تضمّ ممرّضين وممرّضات مستعدّين لرعاية الجرحى في أثناء الحرب. والثّاني يدعو فيه إلى الاعتراف بأولئك المتطوّعين الّذين يتعيّن عليهم المساعدة في تقديم الخدمات الطبيّة التّابعة للجيش، وحمايتهم بموجب اتّفاق دوليّ. وتلبية لهذين النّداءين، شُكلّت في عام 1863، في جنيف، "الّلجنة الدّوليّة لإغاثة الجرحى" الّتي كان "دونان" أحد أعضائها، والّتي أصبحت في ما بعد "الّلجنة الدّوليّة للصّليب الأحمر". في عام 1864 عقدت الحكومة السّويسريّة مؤتمرًا دبلوماسيًّا في جنيف شاركت فيه اثنتا عشرة دولة، اعتمدت حينها معاهدة بعنوان "اتّفاقيّة جنيف لتحسين حال جرحى الجيوش في الميدان"، الّتي غدت أولى معاهدات القانون الإنسانيّ فأصبح للصّليب الأحمر الطّابع الرّسميّ الدّوليّ.
إفلاسه المادّيّ وعودته إلى المسيح
بعد انهماكه في العمل الإنسانيّ، حاول "دونان" إنقاذ عمله التّجاريّ، إلاّ أنّه لم ينجح بسبب انهيار الوضع الاقتصاديّ في الجزائر نتيجة الحرب وتفشّي مرض الكوليرا، ممّا أدّى إلى تدمير كلّ ما بقيَ لـ"دونان" من ثروة. فذكاء "دونان" الكبير وحسّه الإنسانيّ لم ينجيّاه من الوقوع في الإفلاس المادّيّ، حتّى وصل به الحال إلى عوزه للقمة العيش وإهمال مؤسّسة الصّليب الأحمر التّامّ له. إلاّ أنّ هذه الظّروف الصّعبة جعلته يصحو من إهماله لحياته الرّوحيّة. فعاد بتوبة الابن الضّالّ إلى المسيح وإلى الشّركة الرّوحيّة مع أصدقائه القدامى.
استحقاقه جائزة "نوبل" للسّلام
في عمر الثّانية والستّين، زاره أحد الصّحفيّين لإجراء مقابلة معه كمؤسّس للصّليب الأحمر، فأعيد اكتشاف هذه الشّخصيّة الّتي حرّكت بدورها الرّأي العامّ، حتّى استحقّ "دونان" أوّل جائزة "نوبل" للسّلام. وقد سُجِّل بأنّ "دونان" قدّم هذه الجائزة بالكامل إلى الكنيسة والمحتاجين. وقضى بعدها أيّامه يُبشّر بالمسيح المخلّص حتّى وفاته في العام 1915.
تميّزت حياة "دونان" بتنقّله بين نجاح كبير وفشل ذريع، إلاّ أنّها اتّسمت دائمًا بالشّعور الإنسانيّ القويّ بسبب تربية "دونان" المسيحيّة وإيمانه الشّخصيّ بالمسيح صانع السّلام، حتّى صدقت فيه كلمات التّرنيمة:
كلّ حُبٍّ في الوجودِ نبعُهُ حبُّ يسوع
كلُّ حُبٍّ في كياني رَدُّهُ حُبُّ يسوع
منقول عن رسالة الكلمة, العدد: 24، أيار 2011, بقلم: ليليان فرنسيس