مارتن لوثر
كان "مارتن لوثر" أحد أبرز قادة الإصلاح الإنجيليّ في ألمانيا. كان والده من طبقة الفلاّحين، ثمّ تحوّل إلى صناعة المعادن حيث نجح وحصّل مداخيل عالية سمحت له بتأمين تعليم ممتاز لولده. درس "لوثر" في مدرسة الكاتدرائيّة في "ماغدبورغ"، حيث وقع تحت تأثير جماعة "أخوة الحياة المشتركة". ثمّ تابع دراسته الثّانويّة في مدرسة "أيزناخ" قبل ذهابه إلى جامعة "إيرفورت" في العام 1501، حيث حصّل شهادة البكالوريوس في العام 1502، والماجستير في العام 1505. درس "لوثر" الحقوق تلبية لأمنية والده. إلاّ أنّ صاعقة برق ضربت قربه، فأرعدته وجعلته يقطع نذراً أن يصير راهباً، وذلك في تمّوز 1505.
.
وفيما هو في الدّير، بدأ "لوثر" في دراسة اللاهوت بجديّة في جامعة "إيرفورت". وفي العام 1508، أُرسِل إلى "ويتنبرغ" حيث كان يُحاضر في الفلسفة الأخلاقيّة في جامعتها الجديدة. وفي العام 1509 عاد إلى "إيرفورت" حيث تابع دراسته وراح يُحاضر في اللاهوت. أمّا أساتذته في "إيرفورت" فكانوا من أتباع مدرسة اللاهوت الإسميّ (Nominalist) الّتي أنشأها "وليام أوكهام" وتلميذه "كابريال بيال"، الّتي قللّت من دور العقل في الوصول إلى الحقائق اللاهوتيّة وشدّدت على دور الإرادة الحرّة للإنسان في تحقيق خلاصه. في العام 1510-1511، سافر "لوثر" إلى روما بمهمّة تخصّ رهبنته. وبينما هو هناك، صُدِمَ بما رآه من دُنيويّة لدى الإكليروس الّذي كان غير مبالٍ بالحياة الدّينيّة. وفي العام 1511 أُرسِل من جديد إلى "ويتنبرغ" حيث أكمل دروسه العليا ونال الدّكتوراه في اللاهوت في تشرين الأوّل 1512. وفي العام نفسه عُيِّنَ رئيساً لقسم دراسات الكتاب المقدّس في الجامعة.
وبين الأعوام 1507-1512 اختبر لوثر صراعاً روحيّاً عنيفاً بينما كان يسعى إلى تتميم خلاصه، عبر التّدقيق في حفظ القواعد الرّهبانيّة، والاعتراف المتواتر، وإماتة الذّات. وربّما بسبب تأثير التّقوى الشّعبيّة وتعليم لاهوت "أوكهام"، كان "لوثر" يرى في الله قاضياً غضوباً يتوقّع من النّاس أن يُحصِّلوا تبريرهم بأنفسهم. إلاّ أنّ "لوثر" غيّر تدريجيّاً نظرته إلى التّبرير، وذلك بفضل مساعدة الرّئيس العامّ لرهبنته "يوحنّا فون ستوبيتز"، وقراءاته لكتابات القدّيس "أوغسطينوس"، ودراسته للكتاب المقدّس بشكل أساسيّ بينما كان يُحضّر محاضراته لصفوفه في الجامعة. نما مفهوم "لوثر" اللاهوتيّ تدريجيّاً من الإيمان بدور الإنسان في خلاص نفسه، كما علّم "أوكهام"، إلى تبنّي التّعليم "الأوغسطيني" القائل: إنّ الله بنعمته المجّانيّة يُبادر إلى تخليص الإنسان بالإيمان فقط، وبعد هذا الاختبار، يبدأ الإنسان بالتّعاون مع الله في حياته الرّوحيّة. قد يكون "لوثر" اختبر الخلاص شخصيّاً بين العامين 1517-1518، وهو ذَكَر في موعظته حول "التّبرير المُثلّث"، كيف أنّ الله يُبرِّر الخاطئ بفضل ذبيحة المسيح الكفّاريّة بشكل آنيّ وكامل، ومن دون أيّ جهد أو استحقاق بشريّ.
ابتدأ الإصلاح الإنجيليّ في تشرين الأوّل من العام 1517، عندما احتجّ "لوثر" على بيع صكوك الغفران، وذلك عبر أطروحة ضمّت خمسة وتسعين بنداً، علّقها على باب كنيسته في "ويتنبرغ" عشيّة عيد جميع القدّيسين. وقد تُرجمت الأطروحة إلى لغة الشّعب في اليوم التّالي، ووُزِّعت في كافّة أرجاء ألمانيا، الأمر الّذي أثار عاصفة من الاحتجاج ضدّ بيع صكوك الغفران. عندما تضرّرت عمليّة بيع الغفرانات، حاولت السّلطات البابويّة إسكات "لوثر"، فوُوجِهَ أوّلاً داخل رهبنته في "هايدلبرغ" وذلك في 26 نيسان 1518، إلاّ أنّ المناظرة تحولّت فرصة "للوثر" ليُدافع عن لاهوته وليربح مُهتَدين جدد. وفي آب 1518 استُدعيَ "لوثر" إلى روما ليَردّ على الاتّهامات المرفوعة ضدّه والّتي تتّهمه بالهرطقة، على الرّغم من أنّه لمّا يكن قد علّم صراحة ضدّ أيّ من العقائد الرّائجة في القرون الوسطى. وخوفاً من عدم حصول "لوثر" على محاكمة عادلة في روما، تدخّل الأمير "فريدريك الحكيم" طالباً من السّلطات البابويّة أن تُرسِل مُمثّلين عنها لإجراء المحاكمة في ألمانيا. تمّ الاجتماع الأوّل برئاسة الكاردينال "كاجيتان" في تشرين الأوّل 1518، والثّاني برئاسة "كارل فون ميلتِتس" في كانون الثّاني 1519، وفي كلا الاجتماعَين رفض "لوثر" أن يتنكّر لمعتقداته، واستمرّ في إظهار كلّ احترام للبابا ولمُمثّليه.
في تمّوز 1519، عُقِدت مناظرة في "لايبزغ"، حيث شكّك "لوثر" بالسّلطة البابويّة وبعِصمَة المجامع الكنسيّة، مُشدّداً على أولويّة الكتاب المقدّس، الأمر الّذي دفع بخصمه "يوهان إيك" إلى نَسْبِهِ إلى المُصلِح البوهيمي "جون هوص" (الّذي عاش في القرن الخامس عشر وحُكِم عليه كهرطوقيّ)، وذلك في محاولة لتحقيره. خرج "لوثر" من هذه المناظرة أكثر تيقّناً من معتقداته وتصميماً على المجاهرة بها.
وفي العام 1520 كتب "لوثر" ثلاثة كُتيّبات مهمّة للغاية. الأوّل كان "خطاباً للنّبلاء المسيحيّين في الأمّة الألمانيّة"، يدعوهم فيه إلى إصلاح الكنيسة والمجتمع، الأمر الّذي عجزت البابويّة عن إتمامه. الثّاني دعاه "الكنيسة في السّبي البابليّ"، الّذي هاجم فيه النّظام الأسراريّ لكنيسة القرون الوسطى، الأمر الّذي أدّى إلى تصنيف "لوثر" مع المُنحَرِفين عن الإيمان المستقيم. وقد حَصَر "لوثر" في هذا الكُتيّب الأسرار الكنسيّة في اثنتين: المعموديّة وعشاء الرّبّ، وقد زاد سرّ التّوبة إليهما، فيما نَكَر عقيدة الاستحالة وذبيحة القدّاس. أمّا الكُتيّب الثّالث، وهو لاهوتيّ غير وعظيّ بعنوان "حريّة الرّجل المسيحيّ"، فقد وجّهه إلى البابا، وعلّم فيه عقيدة التّبرير بالإيمان فقط.
ومن الجدير ذكره، أنّه قبل نشره هذه الكتيّبات الثلاثة، صدر حكم بابويّ بِحَرْم "لوثر" وبِفَصْله عن الكنيسة الكاثوليكيّة، إلاّ أنّ "لوثر" أظهر عدم خضوعه للسّلطة البابويّة بحرْقِهِ قرار الحَرَم علانية، وذلك في كانون الأوّل 1520، قبل شهر من وضع هذا القرار قيد التّنفيذ في حال رفض "لوثر" التّراجع عن إيمانه. وعلى الرّغم من إدانة "لوثر" من قِبَل الكنيسة، إلاّ أنّه أُعطيَ حقّ الدّفاع عن نفسه أمام محكمة "وورمز" الأمبراطوريّة في نيسان 1521. وفي هذه المُحاكمة طُلِب من "لوثر" التّراجع عن تعاليمه، إلاّ أنّه تمسّك بها بشدّة قائلاً: "أنا لا أتراجع عمّا كَتَبت، فضميري أسيرُ كلمة الله. هنا أقِف، وليُعينَني الله". وبموقفه هذا، تحدّى "لوثر" سلطة الأمبراطور الّذي وضعه تحت الحَرَم وأمر بحرق جميع كتاباته. وفي طريق العودة إلى المنزل، خَطَفَه أصدقاؤه وأخذوه إلى قلعة "وارتبورغ"، حيث بقي مختبئاً حوالى السّنة، وكتب عدداً من المناشير الّتي هاجم فيها المُمارسات الكاثوليكيّة، وابتدأ بترجمة الكتاب المقدّس إلى الألمانيّة. وفي العام 1522 عاد "لوثر" إلى "ويتنبرغ" ليُرتّب الأمور بعد أن عمّت الفوضى في أثناء غيابه، وبقي هناك حتّى نهاية حياته.
تزوّج "لوثر" في العام 1525 من الرّاهبة السّابقة "كاثرين فون بورا"، الّتي أنجبت له ستّة أولاد، وكانت حياته العائليّة سعيدة للغاية، لم يُعكّر صفوَها إلاّ المرض المتكرّر والمشادّات العقائديّة الحادّة.
تميّز "لوثر" بكونه رجل العمل المتواصل. كان يقضي أوقاته يكتب ويُعلّم ويُنظّم شؤون الكنيسة الجديدة، ويقود حركة الإصلاح في ألمانيا. ومن أهمّ كتاباته: "اعتراف الإيمان"، الّذي وضعه في العام 1538، والّذي أظهر بوضوح خلافه اللاهوتيّ مع الكنيسة الكاثوليكيّة. كما اشتهر "لوثر" بكونه صعب المِراس، وباستخدامه لغة وعظيّة قاسية في مواجهة خصومه. ففي العام 1525، عند اندلاع ثورة الفلاّحين في جنوب ألمانيا ورفضهم الاستجابة إلى ندائه بالتّروّي والسّماح له بمعالجة الأمور بهدوء، هاجمهم "لوثر" في منشور دعاه: "ضدّ عصابات الفلاّحين القَتَلَة".
لكنّ الحقّ يُقال إنّ "مارتن لوثر" لم ينظر إلى نفسه كمؤسِّس كنيسة جديدة، بل كمُصلِح كرَّس نفسه لإصلاح الكنيسة وإعادة عقيدة التّبرير بالنّعمة، الّتي نادى بها بولس الرّسول، إلى الموقع المركزيّ في اللاهوت المسيحي. وفي العام 1522، عندما بدأ أتباعه يُطلقون على أنفسهم اسم "اللوثريّين"، كتب إليهم ناهياً إيّاهم عن ذلك، قائلاً لهم: "دعونا نتخلّص من كلّ الأسماء الفِئويّة وندعُ أنفسنا مسيحيّين، على اسم ذاك الّذي نتمسّك بتعليمه ... فانا أتمسّك، مع الكنيسة الجامعة، بتعليم المسيح الجامِع، الّذي هو سيّدنا الوحيد". إلاّ أنّ "لوثر" عاد وقَبِلَ التّسمية عندما هاجم الأعداء أتباعه مُعيّريهم باللّوثريّة، الأمر الّذي أخافهم، فقال لهم "لوثر": "إنْ كنتم مقتَنِعين بأنّ تعليم لوثر يتوافق مع تعليم الإنجيل ... فلا تتنكّروا للوثر بالكامل، لئلاّ تتنكّروا أيضاً لتعليمه، الّذي تعترفون بأنّه تعليم المسيح أيضاً".
مات "مارتن لوثر" في "آيسلوبن" في 18 شباط 1546، في أثناء رحلة لمُصالحة اثنين من النّبلاء اللوثريّين، ودُفِن في كنيسة قلعة "وتنبرغ"، إلاّ أنّ الإصلاح الإنجيليّ استمرّ بعده ونما وغيّر وجه أوروبّا والعالم الغربيّ.
منقول عن رسالة الكلمة, العدد: 4، شباط 2006, بقلم: ر. هاينز.