(وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالُوا: «قَوْمٌ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». قَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ [في اليونانية تُقرأ (Petros) وتعني جزءاً من صخرة] وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ [في اليونانية تُقرأ (Petra) وتعنيكتلة من الصخر, أو صخرة ] أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا.) مت16: 13- 18.
.يعلن الرب يسوع أمام مجموعة من التلاميذ اليهود أنه سيبني كنيسته على الصخرة, والصخرة في العهد القديم بمعناها المجازي تشير دائماً إلى الرّب, ولا تشير أبداً للإنسان, قارن (تثنية32: 15+ 2صموئيل22: 32, 47 +مزمور18: 31+ مزمور71: 3+ مزمور95: 1+ اشعياء44: 8 الخ..). وبلا شك قد فهم الجميع أن الرب لا يريد أن يميز بطرس عنهم بأن يجعله (صخرة) أي يرفعه لمصاف الألوهة وهو مجرد (حجرة صغيرة). فالرب يريد أن يبني الكنيسة بنفسه باعتباره (صخرة, إله) (...وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ) 1كورنثوس10: 4. أي يبنيها على ما أُعلن لبطرس من السماء أن المسيح هو (ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ).
فما أعلنه الآب السماوي لبطرس لم يكن شيئاً سرياً يخصه أو يفتخر به أمام بقية التلاميذ, بل كان إعلاناً للجميع أنه مزمع أن يصنع أمراً جديداً, كياناً جديداً, يدعى الكنيسة.
وبلا شك أن حياة الرب يسوع المسيح وموته, ثم قيامته وصعوده وبقاءه حياً إلى الأبد, أكدت وبقوة ضرورة قيام هذا الكيان الذي لا يموت والذي يبقى مثل مؤسسه حياً إلى الأبد.
ومن الغريب أن الرب يسوع في حديثه للتلاميذ لم يذكر تفاصيل بناء الكنيسة أو كيفية إدارتها, لكنه اكتفى بأن صلى لوحدتها (يوحنا17: 11), وأطلق تلاميذه قائلاً (اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا.)مرقس16: 15, (وَأَمَّا هُمْ (بعد يوم الخمسين) فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ والرّبُّ يَعملُ معهم..)مرقس16: 20.
واعتباراً من يوم الخمسين (تاريخ ميلاد الكنيسة) وصاعداً بدأت النفوس بالآلاف (اعمال2: 41+ 4:4) تَقبل ما يعلنه التلاميذ عن يسوع بأنه ابن الله الحي ومخلص جميع الخطاة, ولأن هذا الإعلان هو تحدٍ لتغيير الحياة وضمان الأبدية فقد تجاوب الناس معه بالتوبة والمعمودية, لينضموا إلى الكنيسة.
إن هؤلاء الذين شكلوا الكنيسة, أي الأشخاص الذين اعترفوا بإيمانهم بالمسيح يسوع رباً ومخلصاً, وتجددوا واعتمدوا, ويدعون أبناء الله ( رومية8: 19+ غلاطية3: 26), وإخوة (متى23: 8), وقديسين في المسيح يسوع (عبرانيين13: 24), أخذوا يشعرون يوماً بعد الآخر أنهم مجموعات بشرية تتميز بصفات وقيم وأخلاق مشتركة تربطهم بعضهم ببعض, وبنفس الوقت تميزهم عن غيرهم.
وبدأ هؤلاء ككيان جديد, مع كونه مميز عن اليهودية يجتمعون تارة في الهيكل كما هو مكتوب (وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ (دار الأمم) بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.)أعمال2: 46, أو في المجامع لينشروا رسالة سيدهمأعمال13: 15. وتارة في البيوت ليمارسوا أمراً خاصاً (وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ مُسَبِّحِينَ اللهَ)أعمال2: 47.
ولقد تميزت الكنيسة بعدة أمور:
1- بالمواظبة على (تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ.)أعمال2: 42.
2- بالعبادة يوم الأحد (أول الأسبوع). لاحظ قول الكتاب (وَبَعْدَ السَّبْتِ عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ.) متى28: 1. ولاحظ كيف كانت الكنيسة تجتمع للعبادة (وَفِي أَوَّلِ الْأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزاً خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْغَدِ وَأَطَالَ الْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ.) أعمال20: 7+ 1كورنثوس16: 1-2.
3- بالمواظبة على أمر مسلكي مثير للانتباه, في وقت انتشرت فيه الفردية بين الناس (وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعاً وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ.)أعمال2: 44-45.
وشيئاً فشيئاً بدأت الكنيسة تنتظم مثل كل كيان بشري وذلك بظهور وظائف أو خدمات متعددة فيها, كالرسل والأنبياء والمعلمين والمبشرّين والرعاة والمدبرين الخ..(فَوَضَعَ اللهُ أُنَاساً فِي الْكَنِيسَةِ: أَوَّلاً رُسُلاً ثَانِياً أَنْبِيَاءَ ثَالِثاً مُعَلِّمِينَ ثُمَّ قُوَّاتٍ وَبَعْدَ ذَلِكَ مَوَاهِبَ شِفَاءٍ أَعْوَاناً تَدَابِيرَ وَأَنْوَاعَ أَلْسِنَةٍ.)1كورنثوس12: 28.
وقد أوكل الرب يسوع إلى الكنيسة الحكم النهائي (متى18: 17-20+ 1كورنثوس5) فيما تتخذه من قرارات وإجراءات إن كان من جهة التأديب أو من جهة الغفران (2كورنثوس2: 7-8), ومرجعها في ذلك الكتاب المقدس.
وعلى ما يبدو أن كلّ كنيسة كانت تتولّى أمورها بنفسها فمشاكل كورنثوس مثلاً لم تُحلّ في أفسس أو غلاطية أو أورشليم, لكنها عولجت من قبل كنيسة كورنثوس. ونفس الأمر يبدو أيضاً في الرسائل الموجهة للكنائس السبع. وهذا ما يقودنا إلى الافتراض بأن الكنائس كانت تتمتع بإدارة ذاتية مستقلة.
لكن هذه الاستقلالية لم تكن بأي حال من الأحوال عائقاً أمام ارتباط الكنائس بعلاقات المحبة الأخوية والتعاون في حقل الكرازة والخدمات الاجتماعية (رومية15: 26+ 2كورنثوس9: 5+ غلاطية2: 10). فالدول التي نمت فيها الكنيسة لم تكن تعمل على ضمان شيخوخة أفرادها ولا كانت تهتم بتسديد احتياجات فقرائها, وكون الكنيسة جُل أعضائها من الفقراء أخذت على عاتقها ممارسة دور السامري الصالح, فجمعت المال من القادرين على العطاء ليوزعه شمامستها على أصحاب الحاجة, و قامت الأخوات بصنع الثياب وتوزيعها على الفقراء (أعمال9: 36-41).
وأيضاً هذه الاستقلالية لم تكن عائقاً أمام وحدة الكنيسة التي صلى لأجلها الرب يسوع قائلاً (لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي) يوحنا17: 21.
فهذه الوحدة ليست إدارية كما يحلوا للبعض أن يصفها كي يُلزم الجميع بقيادة واحدة, لكنها وحدة روحية كما هو مكتوب (مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ. جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ.رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ) أفسس4: 3-5.
ومن الجدير بالذكر أن الكنيسة التي عاشت في مجتمعات تمارس نظام العبودية, لم تدعُ أفرادها للثورة وتغيير هذا النظام بالقوة بل حثّت العبيد أن يكونوا أمناء في خدمة أسيادهم, وحثت الأسياد أن يكونوا مترفّقين بإخوتهم العبيد. وطالبت الجميع بأن يكونوا مواطنين صالحين يخضعون للسلاطين حتى لو كانوا عنفاء ظالمين, وأن يوفوا ما عليهم من التزامات تجاه دولتهم من دفع ضرائب وغيرها, وأن يرفعوا الصلوات من أجل كل من هو في منصب, وأن يقاوموا شرور الجميع بالخير كما فعل معلمهم وربهم يسوع المسيح.
وقد أصرت الكنيسة الأولى على انفصالها عن ممارسات المجتمع الروماني الوثنية, إلا أنها لم تنفصل في كل العلاقات الاجتماعية الإنسانية, بل اختلطت مع الآخرين وشجعت على ذلك طالما أنّ هذا الاختلاط لا يسبب أي تفريط بعقيدتها وإيمانها (1كورنثوس5: 10+10: 20-33).
وأخيراً فإن الكنيسة تتمتع بوعد من الرب أنه باق معها إلى انقضاء الدهر, وأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها, أو بتعبير آخر لن تقوى على الصمود أمامها, وأن المؤمنين تتبعهم هذه الآيات (يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ) مرقس16: 17-18.
أما أعظم المواعيد فهو المجد الذي ينتظرها في نهاية الزمان عندما يصنع الله كل شيء جديداً إذ تتوج الكنيسة بالجلوس في عرش ابن الله كما قال الرب له المجد (مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ)رؤيا3: 21, (أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي..) يوحنا17: 24.
بقلم خادم الرب, نبيل سمعان يعقوب
حمل الملف على شكل pdf |
014.pd |