ولادة يسوع
(لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ) صدر الأمر من القيصر: لتُكتتب كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. (فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ). لتدّون اسماؤهم في سجل الاكتتاب العام للمسكونة كلّها.
كانت مريم في شهرها, وإذ استغربت ضرورة السّفر إلى بيتَ لحمٍ قالت: (مَعُونَتِي مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ) (عَوْناً فِي الضِّيقَاتِ وُجِدَ شَدِيداً).
أركبها يوسف الدّابة وانطلقا (مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ). كان الطّقس خريفيّاً, والطريق وعرة, والمسافة ليست قليلة.
في الطريق تحادثا عن رؤى القدير, وعن جدّهم داود صاحب الوعد
.(مَتَى كَمِلَتْ أَيَّامُكَ وَاضْطَجَعْتَ مَعَ آبَائِكَ أُقِيمُ بَعْدَكَ نَسْلَكَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ). وبينما أوراقُ الشّجر الصفراء ذَهَبُ الخريفِ تتساقط عليهم, والنسمات الباردة تلفحهم, كان يوسف يلفّ مريم بعباءته.
افترشوا الأرض ليلاً بين الأشجار, فوق الصخور وبين الدّواب. ناموا في الطريق ثلاثة أيّام قبل وصولهم بيت لحم. تشاركوا مع رفاق الطرّيق طعامهم وشرابهم. واذ وصلوا بيت لحم لم يسمعوا فيها ترانيم جدّهم داود, بل هرج ومرج, وصخب يصنعه جنود القيصر. كلّ الأماكن مزدحمة ولا مكان لنزيل جديد. (وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ), أمّا يوسف فاضطرب.
تحت قبّة الفضاء, في قرية صغيرة مزدحمة بضجيج النّاس, ووسط الهتافات لقيصر, وصراخ السماسرة على المنازل, وأصوات الدّواب التي تغشي المكان, كانت مريم تئنُّ من المخاض وليس من يَرْثِي. لكن من العُلى (الرَّبَّ أَرْسَلَ مَلاَكَهُ), فقادهم إلى مكانٍ مُلحقٍ بمنزله, مخصّص للدواب, باتا فيه.
في مكانٍ ناءٍ, حقيرٍ ومظلمٍ, وعلى ضوء مشعلٍ صغيرٍ. في مذودٍ قد تَركت الأغنام طعامها فيه ونامت تلك الليلة جائعة. بدون ضجيج أو زغاريد, بدون ذبائح بدون أناشيد. بين انفاس الحيوانات ورائحة روثها المتبخّر. في صمت وسكون, ومع رفع الذّبيحة المسائيّة ولِدَ لنا ولدٌ وأُعطينا ابناً من السّماء, ملك الملوك وربّ الأرباب. (وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ).
بعد العناء, لم يُعطَ يوسف مكاناً يليق بالقادم إلينا سوى المذود. هل ضاقت الأرض بالمنازل فاستبدلت بها مذاود الغنم والبقر. ألا تعرف الأرض نزيلها, أم اعتادت استضافة العظماء بالمذاود, والأدنياء بالقصور.
لم يَحتجَّ المولود على سوء الضيافة, فالذي ترك مجد السماء وتسبيحات الملائكة ليأتينا, سيّان عنده إن ولد في قصرٍ أو كوخٍ حقير. لأنه (أَيْنَ الْبَيْتُ الَّذِي تَبْنُونَ لِي وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي).
ألا يوجد من يُكرم هذا المولود, ابهتي أيّتها السّماوات بل انشقّي, (قد دْخَلَ الْبِكْرَ إِلَى الْعَالَمِ) والصّمتُ يلفّه. فانشقّت السّماء ومجد الرّب أضاء, وصدر الأمر فوق قُبّة الفضاء في المكان الفسيح: (لْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ الله). وإذ ضاق صبر الملائكة من جحود الأرض ترنمت: (الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ).
أُسند ظهر المولود إلى خشب المذود, كما أُسند في شبابه الى خشب الصليب. هل هي مصادفة, ام انّنا منذ الطفولة ندربه كيف يُسند ظهره للخشب, لئلا يفاجأ على الصليب بقسوته.
كان يوسف ومريم بلا منظر لدى العالم وقيصر فَلم يَلمحهما أحد, لكنّهما في المذود وضعا, من سيقتلع قيصر وروما وممالك العالم, لتسود فيه مملكة ليست منه.
عجيب أنت في أعيننا, أخذت صورة عبد ومع ذلك أنت من فوق. لبست ثيابنا ونزلت, بينما عبدك يصرخ ويقول: (لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ مِنْ حَضْرَتِكَ تَتَزَلْزَلُ الْجِبَالُ). ألم تغيرك ثيابنا, ما أبهاك, ما أروعك ما أشهاك, ما زلت فوق كل الخليقة.
نعم, أخذت صورة عبدٍ نجارٍ لتبني, أليس كل بيت يبنيه إنسان ما, ولكن أنت باني الكل, بل بنيت أجمل من الكل. بنيت بيتك, وبيتك نحن, ومن تعب نفسك رأيت وشبعت.
أيّ شعور خالج الله يوم ميلاده. الذي صنع كلّ ما هو كائن وسدد لكلّ من له احتياج, الآن عاجز له احتياج, طفل بلا لغة ولا تناسق عضلاتٍ ولا اسنان تَمضغ. الذي هو (الرَّبُّ فِي الْعُلَى أَقْدَرُ), الآن فرصة العالم لخذله وقهره, وتسميره على الصليب حين يكبر. الذي يصوح صوته قِمم الشّجر, الآن يبكي وبالكاد تسمعه مريم. الذي (فِي الزَّوْبَعَةِ وَفِي الْعَاصِفِ طَرِيقُهُ وَالسَّحَابُ غُبَارُ رِجْلَيْهِ), و(اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ), الآن يُملّح ويُلفُّ بقماط ليُحمل. (الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ), يصير في حضن مريم.
أيها المولود هل بكيت مثلنا, (الإِنْسَانَ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ. الإِنْسَانُ مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ، قَلِيلُ الأَيَّامِ وَشَبْعَانُ تَعَبًا). إن كانت بدايتك هكذا فالنّهاية كيف تكون.
كان عظيماً ان يُصنع الانسان على صورة الله, امّا ان يصير الله على صورة الانسان منحدراً من سماواته العُلا إلى خشب المذود. فهذا أعظم.
منقول عن كتاب (مخلص العالم), لمؤلفه نبيل سمعان يعقوب