شخصيات تاريخية
تسجيل

كرنيليوس فان دايك

مِنَ الّذين وَفَدوا إلى الشّرق في أوائل نهضته، وسبّبوا تغييراً كبيراً في مجرى تاريخه، المُرسَل "كارنيليوس فان دايك". إنّه رجل باركه الله، فأنار بلادنا بعطاءاته الفكريّة والرّوحيّة، ومآثره الأدبيّة العظيمة، وخدماته الجليلة.  كلّ مَنْ يدرس سيرته وأعماله يتيقّن حقّاً أنّه عَكَسَ نور المسيح في هذه البقعة من العالم في القرن التّاسع عشر.

نشأة كرنيليوس فان دايك

وُلِدَ "كرنيليوس فان دايك" في 13 آب 1818، في بلدة "كندرهوك" في ولاية "نيويورك"، في الولايات المتّحدة الأميركيّة، من أبوين هولانديّي الأصل. تلقّى دراسته الابتدائيّة والثّانويّة في مدرسة بلدته، وتعلّم الّلاتينية واليونانيّة إضافة إلى الهولّنديّة والإنكليزيّة.  كما دأب على حفظ أسماء كلّ النباتات البّريّة الّتي كانت تنمو في نواحي بلدته، وتعلّم بنفسه تصنيفها بحسب نظام "لينوس" النّباتي الشهير.

كان "فان دايك"، على الرّغم من فقر عائلته، يستعير الكتب من رفاقه أو يستأجرها بدريهمات قليلة يجمعها، أو يحفظ ما يسمعه من قرّائها.  إلاّ أنّ طبيباً كريم الأخلاق في القرية، يقتني مكتبة كبيرة، فتح له أبواب مكتبته بعدما رأى اجتهاده في تحصيل المعارف، فانكبّ على دراسة ما فيها بينما كان يخدم في صيدليّة أبيه، حيث أتقن فنّ الصّيدلة علماً وعملاً، قبل أن يدرس الطّبّ وينال درجة الدكتوراه من كليّة "جفرسن" الطبيّة في فيلادلفيا عام 1839.

دخول فان دايك الخدمة الإرساليّة

بعد تخرجه، توجّه "كرنيليوس فان دايك" برسالة إلى المجلس الأميركاني للبعثات التبشيريّة في "بوسطن"، يخبره فيها

.

عن عزمه على الانضمام إلى الإرساليّات الدّينيّة في الخارج.  وبعد قبوله كمُرسَل، سافر "كرنيليوس فان دايك" بالباخرة، برفقة جماعة من المُرسَلين ونسائهم، من "بوسطن" إلى بيروت.  وبعد سفر دام حوالى الشّهرين، استقبلهم عند وصولهم كلّ من الدّكتور "وليم طمسن" و "إي بيدل".  وبسبب مبدأ الحَجْر الّذي كان مطبّقاً آنذاك، حُجروا وأمتعتهم أربعة عشر يوماً ثم أُطلِقَ سراحهم في 15 نيسان.  فنزل "كرنيليوس فان دايك" في غرفة المكتبة التابعة لمطبعة الأميركان، ريثما يقرّ الرّأي على المكان الّذي سيتمّ إرساله إليه.  ويذكر الكاتب "جرجي زيدان" أنّ "كرنيليوس فان دايك" حفظ خلال هذا الحَجْر مئتي كلمة من اللغة العربيّة.

أعمال فان دايك في جبل لبنان

جال الدكتور "كرنيليوس فان دايك" برفقة الدّكتور "طمسن" مُستطلعاً المنطقة الشّماليّة في سوريا، بحثاً عن أفضل المراكز الصّالحة للتبشير.  ومن ثمّ دُعي إلى اللّحاق بالمُرسَلين إلى القدس، حيث تعلّم العربيّة على يد المعلّم "ميخائيل عرمان"، أحد تلامذة مدرسة الدّكتور "طمسن" في بيروت، وأمضى ثمانية أشهر في معالجة مرضى الحمى الّتي أصابت المنطقة. عاد "فان دايك" إلى بيروت في شهر شباط عام 1841، حيث تعرّف بالمعلم بطرس البستاني، فسكنا معاً وارتبطا برباط المودّة والصّداقة.

في ربيع عام 1841 تقرّر فتح مدرَستَين، واحدة في عين عنوب والثّانية في دير القمر، على أن يدرّس فيها الدّكتور "فان دايك" أولاد أعيان الدروز.  وفي آب 1842 تمّ إنشاء مركز للتبشير في عيتات وُضِع تحت إشرافه، فقضى الشتاء الأوّل مُترجِماً كتاب التعليم المسيحي.  وفي 23 كانون الأوّل من العام نفسه، اقترن "فان دايك" بالآنسة "جوليا ابوت"، ابنة القنصل الإنكليزي العامّ في بيروت.

في صيف 1843 نُقل الدّكتور "فان دايك" إلى منطقة عبيه حيث فتح المُرسّلون مدرسةً وبنَوا كنيسة.  وكان "فان دايك" يعلّم الشبّان في المدرسة ويعظ في الكنيسة حتّى عام 1845، حين أمر وزير الخارجيّة التّركيّ شكيب أفندي بوجوب مغادرة جميع الأجانب الجبل، فأقفلت المدرسة في عبيه وعاد المُرسَلون إلى بيروت.  وبعد قضاء شهرين فيها، سُمحَ لهم بالعودة إلى عبيه، حيث احتُفل برسامة الدّكتور "كرنيليوس فان دايك" قسّيساً وذلك في 14 كانون الثّاني من عام 1846.

وفي ربيع 1846 قرّر المُرسَلون جعل اللّغة العربيّة لغة التّدريس في مدرسة عبيه، فعُيّن كلّ من الدّكتور "فان دايك" والمعلّم بطرس البستاني للقيام بتلك المهمة فأخذا يعلّمان الطلاّب في الصّباح، ويَنكَبّان على الدّرس والمطالعة ووضع الكتب المدرسيّة باللّغة العربيّة في المساء. كما اشتركا في النّشاط الّذي كانت تقوم به الجمعيّة السوريّة، وساهما في تنشيط أعمالها وتنظيمها وتأسيس مكتبتها القيّمة الّتي حَوَت حوالى 500 مجلَّد.  وبقي الدّكتور "فان دايك" متولّياً رئاسة مدرسة عبيه حتّى سنة 1851، إذ نقل بعدها إلى صيدا برفقة الدّكتور "طمسن".

سُرَّ الدّكتور "فان دايك" بفكرة نقله إلى مركز صيدا، حيث بقي حتّى أواسط سنة 1853.  مكرّساً نفسه لأعمال التبشير والوعظ بكلمة الله، والتّجوال مع الدّكتور "طمسن" لتبشير المرضى ومعالجتهم.  بعدها سافر إلى أميركا، حيث تعرّف إلى أحدث الإكتشافات الطبّيّة حول الجراثيم.  وعندما عاد إلى مركز عمله في صيدا، في أواخر سنة 1854، أحضر معه مجهراً صغيراً، فكان بذلك أوّل طبيب في الشرق الأوسط يستعمل المجهر للأغراض الطبّيّة.

فان دايك يُترجم الكتاب المقدّس إلى اللغة العربيّة

استمرّ الدّكتور "فان دايك" يعمل في صيدا حتّى وفاة الدّكتور "عالي سميث" في 11 كانون الثّاني عام 1857، عندما انتدبته الإرساليّة الإنجيليّة لإتمام ترجمة الكتاب المقدّس الّتي كان قد ابتدأها الدّكتور "سميث" عام 1848.  ويذكر القسّ "هنري جسب" حول اختيار الإرساليّة الدّكتور "فان دايك" لإتمام ترجمة الكتاب المقدّس، ما يلي: "إنّ الله، بعنايته الحكيمة، قد أعدّ هذا الرّجل الغيور مدّة سبع عشرة سنة لهذا العمل المهمّ، لأنّه كان قد حفظ مجلّدات مِن الكتب العربيّة من شِعرٍ وعروضٍ ومَنطِق وصَرفٍ وتاريخ، وكان قد ألّف مجلّدات في العلوم والفنون. ولم يكن له نظير بين الأوروبيّين في معرفة اللّغة العاميّة، كما أنّ معرفته اليونانيّة والعبرانيّة والسريانيّة والكلدانيّة كانت واسعة".

وهكذا أخذ الدّكتور "فان دايك" يتفانى في عمل التّرجمة، حتّى أنجز طبع العهد الجديد في 29 آذار عام 1860، بعد عمل متواصل دام ثلاث سنوات.  وعن عمله هذا يقول القسّ "هنري جِسب": "إنّي قد شاهدت "فان دايك" مراراً كثيرة جالساً في غرفة التّرجمة، محاطاً بقواميس ومجلّدات في لغات مختلفة، مُمعِناً النّظر ومدقّقاً في البحث عن معنى كلام الله في اللغات الأصليّة وحقيقة الاصطلاحات العربيّة، وهو ضاغط رأسه بيديه بسبب ما ألمّ به من الصّداع".

وبعد انتهاء المرحلة الأولى للتّرجمة، وبناءً على طلب الدّكتور "طمسن"، توجّه الدّكتور "فان دايك" إلى ألمانيا للرّاحة من عناء العمل.  وهناك، كان يُقابل المستَشرِقينَ الألمان ويستشيرهم في الأمور الّتي تتعلّق بترجمة أسفار العهد القديم.  ولدى عودته من ألمانيا، انصرف إلى معالجة جرحى أحداث 1860 في بيروت، وإلى ترجمة العهد القديم عن العبرانيّة.  وفي آذار 1863 أنشأ نشرة شهريّة، دعاها "أخبار انتشار الإنجيل في أماكن مختلفة".  وفي 22 آب عام 1864، أنجز ترجمة العهد القديم إلى العربيّة.  وهكذا تمّت ترجمة الكتاب المقدّس كاملاً بعد عمل متواصل دام ستّ عشرة سنة، وقد ابتدأت مع الدّكتور "عالي سميث" وانتهت مع الدّكتور "كرنيليوس فان دايك".

فان دايك الكاتب والمعلّم والطبيب

إلى جانب عمل الترجمة، تولّى الدّكتور "فان دايك" رئاسة مطبعة الأميركان، وأشرف على تنقيح الكتاب المقدّس الّذي تمّ طبعه في 29 آذار 1865.  وفي هذه السّنة أيضاً، بعثت به الإرساليّة إلى الولايات المتّحدة كي يشرف على تقنيّات تساعد على طباعة الكتاب المقدّس.  فأتاحت له هذه الزّيارة فرصة دراسة أمراض العين، بالإضافة إلى عمله في دار الكتاب المقدّس في نيويورك.

وفي أثناء وجوده في أميركا، عَرض عليه مجلس أمناء الكليّة السّوريّة الإنجيليّة (الجامعة الأميركيّة اليوم)، الّتي تأسّست عام 1866، أن يكون أستاذاً فيها، فقَبِلَ العرض.  وفي سنة 1867، عاد إلى مركز عمله في بيروت، وباشر مع زميله الدّكتور "ورتبات" تأسيس القسم الطبّي في الكليّة عينها، فوضعا منهجاً للدّروس يُلزِم الطّالب دراسة الطبّ أربع سنوات كي يحصل على شهادة طبيب.  

درّس الدّكتور "كرنيليوس فان دايك" في الكليّة عدّة موادّ علميّة لمدّة ستّ سنوات، وأنشأ مستوصفاً لأمراض العين، ومَرصَداً فلكيّاً جهّزه من ماله الخاصّ بآلات قُدِّرت قيمتها بسبع مئة ليرة إنكليزيّة.  كما ألّف، للطلاّب في الفروع العلميّة الّتي كان يدرّس فيها، كتباً وطبعها على نفقته الخاصّة.  مع هذا، لم يتخلّ، خلال عمله في الكليّة، عن إدارة مطبعة الأميركان، وتنقيح ما كان يُطبع فيها من الكتب، وتحرير النشرة الأسبوعيّة الّتي توّلى رئاسة تحريرها حتّى آخر سنة 1879.

قدّم الدّكتور "كرنيليوس فان دايك" استقالته من التّعليم في الكليّة السّوريّة الإنجيليّة سنة 1882، ومن عضويّة مجلس مدرائها في سنة 1883، وزاول رسالته الطبّيّة في مستشفى القدّيس "جاورجيوس" حتّى سنة 1893.  لكنّه تابع تأليف سلسلة من الكتب العلميّة، تحت عنوان "النّقش في الحجر"، تتناول مختلف الفنون العلميّة بطريقة مبسَّطة، وقد صدر منها ما بين سنة 1885 وسنة 1889 ثمانية أجزاء في العلوم الطبيعيّة والكيمياء والطّبيعيّات (الفيزياء) والجغرافيا الطّبيعيّة والجيولوجيا وعِلم الفَلَك والنبات والمنطِق.

موت فان دايك

دعت لجنة من أصدقاء "فان دايك"، تتألّف من أشخاص ينتمون إلى جميع المذاهب والطوائف في البلاد، إلى تكريم الدّكتور "كرنيليوس"، وذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على وصوله إلى بيروت.  وفي صبيحة 2 نيسان 1890 غصّت داره في رأس بيروت بوفود المهنّئين من أصدقائه الوطنيّين والأجانب، فكان الخطباء والشّعراء يتبارون في إلقاء الخطب والقصائد في مدحه.  أمّا الدّكتور "فان دايك" فأجابهم والدّموع تتلالأ في عينيه: "إنّي أقمت بين أهل الشّرق بكلّ نيّة صافية، ولم أقصِد غير نفع جيلي وترقيته وتخفيف الأثقال بقدر المستطاع، وهذا من فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء".

توفّي الدّكتور "فان دايك" في 13 تشرين الثّاني من عام 1895، بعد أن أمضى في الشّرق الأوسط 55 سنة و7 أشهر و11 يوماً.  وما إن ذاع خبر نعيه حتّى تقاطر الناس من جميع الطوائف إلى منزله بالمئات.  كما أوفدت الحكومة المحليّة فرقة من الجندرما والبوليس لكي يسيروا أمام جنازته الّتي أُقيمت في الكنيسة الإنجيليّة في بيروت.  اقتصرت مراسيم الجنازة على تلاوة الإصحاح الخامس عشر من رسالة كورنثوس الأولى والمزمور التّسعين، وذلك تنفيذاً لوصيّته الّتي منع فيها تأبينه أو إلقاء الخطب، ولذلك سكت الجميع، وكان لهذا السّكوت تأثير عظيم في قلوب الجمهور.  وقد قال أحد أصحابه: "إنّ وصيّته هي موعظة أفصَح مِنْ كلّ المواعظ الّتي نَطَق بها الفقيد في حياته".

وفي 26 شباط سنة 1899 احتفل مستشفى القدّيس "جاورجيوس" برفع السّتار عن تمثال الدّكتور "فان دايك" الّذي نُصِب في باحتها.  وفي 11 نيسان سنة 1913، احتفلت الكلّيّة السّوريّة الإنجيليّة برفع السّتار عن تمثالَي الدّكتور "فان دايك" والدّكتور "يوحنا ورتبات" الّلذَين وُضِعا بعد الاحتفال في قاعة الاستقبال العموميّة.  لكن في 27 تشرين الأوّل من العام 1932، احتفلت الجامعة الأميركيّة في بيروت بتدشين مبنى "فان دايك" المخصّص لتدريس الطبّ، فنُقِل تمثاله إليها ووُضِع على مدخلها.  وهكذا، انتهت حياة إنسان وضع نفسه بين يدَي خالقِه، فاستخدمه الله بأفضل ما يمكن، ولا يزال أثره كبيراً في الأجيال إلى يومنا هذا

منقول عن رسالة الكلمة, العدد: 1،  أيار 2005, بقلم: يولا فرحات